للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الرابعة:
بمجرد ما تناقلت الصحافة العالمية أنباء احتمال هجوم وشيك فرنسي-اسباني على الريفيين، بدأت تتوافد على المغرب العشرات من المراسلين الصحفيين المنتمين إلى جنسيات مختلفة قصد تغطية حرب الريف، وطلبت الأغلبية الساحقة منهم الالتحاق بالحبهة الفرنسية نظرا لأهميتها الحاسمة، حتى يتمكنوا من متابعة تطورات الأحداث من هناك. وما كان يهم السلطات الاستعمارية هو كيف يمكن استغلال هذا العدد الهام من الصحافيين الأجانب لدعم دعايتها الرسمية ضد الريفيين.
وبالطبع، لقد تم تحسيس واستمالة المراسلين الفرنسيين والاسبان بهدف إظهار شفونيتهم أكثر ودحض كل دعاية مضادة. وأول إجراء عملي اتخذته السلطات الكولونيالية في هذا الباب هو ممارسة رقابة مشددة على ما يكتبه المراسلون من تقارير وما يبعثونه من برقيات إلى جرائدهم، ولهذا الغرض تم إحداث خلية خاصة بمراسلي الصحافة الأجنبية يشرف عليها ضباط من القيادة العليا لأركان الحرب العامة.
كانت آنذاك الإذاعة المسموعة في بدايتها المتلجلجة وأما الإذاعة المرئية فإنها مازالت فكرة نظرية، لهذا فإن جميع المراسلين كانوا مراسلي الصحافة المكتوبة، ويتشكل معظمهم من مراسلين حربيين لهم دراية بالميدان العسكري، لا بل منهم من كان ضابطا عسكريا يشتغل كصحافي محترف.
وكانت وجهات نظرهم تختلف حسب اختلاف انتماءاتهم السياسية، وقناعاتهم الفكرية والثقافية، وطموحاتهم الشخصية. وليس كل ما كان يعرفه المراسل الصحفي هو ما كان ينشره في جريدته، ولذلك عدة أسباب: منها الرقابة الرسمية، والرقابة الذاتية، وتوجهات الجريدة، والالتزام الإيديولوجي، وشراء الذمم والارتشاء، وعدم الكفاءة المهنية، الخ.
ونظرا لأهمية الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها قوة عالمية صاعدة وذات حضور وازن في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الكبرى ، فلقد حظي مراسلو الصحف الأمريكية باهتمام خاص. وكانوا يحتلون الرتبة الثانية من حيث العدد، مباشرة بعد الفرنسيين. وتتلخص وجهات نظرهم في ثلاثة أسباب رئيسية كانت وراء مجيئهم إلى المغرب لتغطية الحرب الريفية:
1- ترى ثلة من المراسلين الأمريكيين أن اهتمام الولايات المتحدة ناجم عن اعتقادها في كون “القضية المغربية” مرشحة لمضاعفات ستجعل منها بداية نزاع أوربي واسع النطاق، على غرار ما حدث سابقا بالنسبة ل”قضية اكادير” (1911).
وفي نظر هؤلاء، يبدو النزاع في المنطقة الشمالية المغربية بالدرجة الأولى كنتيجة لتضارب المصالح الألمانية، والانجليزية، والبلشفية. و الملاحظ هو أن هذه الثلة كانت لا تشير إلى المصالح الأمريكية، والفرنسية، والإسباينة، والإيطالية في نفس المنطقة…
2- ويرى فريق آخر أن تواجد ملاحظين أمريكيين لتتبع الحرب الريفية، من شأنه أن يلقي مزيدا من الضوء على الاتجاه الامبريالي الفرنسي ويبين السهولة التي تجدها فرنسا في تمويل حملاتها العسكرية المكلفة، في حين تبدو عاجزة عن رد ديونها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
3- وانفرد مراسل جريدة ساتردي افنينح بوسط، وليامز، بوجهة نظر ثالثة. وهي أن الاهتمام البالغ الذي كانت تبديه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ب”القضية المغربية” كان يدعمه احتمال انفجار “القضية المكسيكية” التي كانت حينذاك تشغل بال المحللين السياسيين الأمريكيين، وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تبعث إلى المغرب، إلى جانب مراسلين سياسيين، مراسلين حربيين ليسجلوا بعناية فائقة تطور العمليات مع دراسة دقيقة للأساليب المستعملة بين أطراف هذا النزاع ذي الطبيعة الخاصة. لأن في نظر وليامز، كون دولة صغيرة من حجم الريف تقف صامدة ومنتصرة على قوتين عظميين، من شأنه لا محالة أن يدفع بالمكسيك إلى التقليل من هيبة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يهاجمها.
كانت وجهات نظر المراسلين الأمريكيين تصب كلها في نفس الاتجاه: وهو الدفاع عن مصلحة الولايات المتحدة قبل كل شيء مع الحفاظ على الوضع القائم. ولم تتم لا من قريب ولا من بعيد الإشارة إلى علاقة “الصداقة التاريخية” التي تجمع بين المغرب والولايات المتحدة منذ 1787 !… على أن وجهات النظر هذه، تندرج كلها في الموقف الرسمي وتختلف شيئا ما عن شعور رجل الشارع الأمريكي. و جاءت وجهة نظر مندوب صحافة هارست الأمريكية لتؤكد وتعزز الموقف الرسمي إعلاميا.
لقد عُين كارل فون فيكون، في ماي 1925، مراسلا عاما في أوربا للجرائد التابعة لمجموعة هارست الأمريكية. وعندما اشتد القتال على الجبهة الريفية، سافر كارل فون فيكون جوا إلى الرباط، وخصصت له الإقامة العامة استقبالا يليق برئيس دولة. لأن هذا المراسل كان في الواقع يمثل امبراطورية إعلامية تتحكم في الرأي العام الأمريكي من خلال احتكارها النسبي للسوق الإعلامية الأمريكية حينذاك: كان لها ما لا يقل عن 28 من كبريات الجرائد اليومية، ووكالة أنباء دولية (انترناشيونال نيوز سرفس) التي كانت تؤدي ثمن الاشتراك في خدماتها الإعلامية 141 جريدة صباحية وحوالي 600 جريدة مسائية، إضافة إلى وكالة مهمة لإنتاج وبيع الصور الفوتوغرافية الإعلامية. وقد كلفت القيادة العليا للجيش الكولونيالي ضابطا من رتبة قائد كتيبة خصيصا لمرافقة هذا المراسل غير العادي، ونظم على شأنه استعراض عسكري بالدبابات يوم 10 غشت1925 بوزان. كل ذلك كان من أجل استمالته وجعل امبراطورية هارست التي يمثلها تؤازر الاستعمار الفرنسي ضد الريفيين.
ويرى كارل فون فيكون أن اهتمام الولايات المتحدة بالريف يتلخص في ثلاثة أسباب: أولا مشاركة طيارين أمريكيين إلى جانب القوات الجوية الفرنسية، ثم معرفة سر قوة عبد الكريم الذي لم يهزم اسبانيا فقط، بل أصبح يهدد فرنسا التي تعتبر قوة عسكرية عالمية. والسبب الثالث يكمن في تساؤل الشارع الأمريكي عما إذا كانت الحركة الريفية مساندة من طرف العالم الإسلامي وتكتسي طابعا وطنيا ضد الهيمنة الأوروبية.
وإذا كان هذا هو طابعها فلا شك أن الرأي العام الأمريكي في معظمه سيتعاطف معها، مستحضرا عبر موقفه هذا حلقة من تاريخ الولايات المتحدة في صراعها من أجل الاستقلال. وبعد هذه الزيارة التي دامت حوالي أسبوع، غادر كارل فون فيكون المغرب وقد أعجب بما أنجزه الفرنسيون في هذا البلد.
وقال إن أي مشروع يهدف إلى الانسحاب منه يعتبر بمثابة حماقة كبرى. وقد قام بزيارة لباشا مدينة فاس، محمد البغدادي، الذي قال عنه إنه رأى فيه وجها من وجوه ألف ليلة وليلة… وكتب المارشال ليوطي حول زيارة فون فيكون قائلا:”أعتقد أن السيد فون فيكون غادر المغرب وكان متأثرا إيجابيا لما شهده هنا، وأتمنى أن ينعكس ذلك على موقفه إزاءنا” .
وعبر المراسلون الإسبان عن عدم ارتياحهم لظروف الاستقبال التي خصصت لهم. وكتب كوروتشانو في جريدة إ. بي. سي. مؤكدا أن الوضع في فاس يذكره بالوضع الذي كان سائدا في مليلية سنة 1921، أي بعد معركة أنوال التي سجل فيها الإسبان فشلا ذريعا. وكان موقف مراسلي الصحافة الإنجليزية يتسم بالانضباط لتعليمات الجيش الفرنسي مع مراقبة سير العمليات وتحليل تطوراتها في إطار الخطوط العريضة للسياسة البريطانية العامة. ولم تكن السلطة العسكرية المكلفة بتأطير المراسلين الصحافيين مرتاحة لدور المراسلين الفرنسيين:”ليست للمراسلين الفرنسيين لا موهبة ولا تجربة، باستثناء واحد أو اثنين. إنهم يقتصرون على سرد الوقائع بجفاء أو، على العكس، يركنون إلى سرديات سهلة”.
ولم تكن لعدد كبير من المراسلين إلا فكرة جد ضيقة عن الريف وعن المغرب، اللهم فيما عدا ما زودتهم به الدعاية الاستعمارية الكلاسيكية التي كان معظمهم يرتاح إلى أطروحاتها المبتذلة. لكن بصفة إجمالية، ساهم عمل المراسلين الصحفيين بقسط كبير في التعريف بالقضية الريفية، فلولاهم لما تحرك الرأي العام العالمي في مختلف أرجاء المعمور. نعم، كانت مواقفهم غالبا ما تؤيد النظرة الاستعمارية وتنحو منحاها في التحليل والتعليق والتلفيق، إلا أن المنافسة المهنية بينهم، على علاتها، كانت قمينة بخلق دينامكية إعلامية أعطت نتائج لم تكن السلطات الكولونيالية تتوقع مداها الحقيقي، ولعل من أهمها تلك التي تجلت في الانعدام المطلق لإمكانية التعتيم. وهو نفس الدور الذي قامت به وكالات الأنباء ذات النفوذ العالمي.