للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الثامنة:
في عدد 2 مايو 1925، أعلنت صحيفة “ليمانتيه” لقرائها: «لقد شنت الجيوش الفرنسية غاراتها على عبد الكريم». وفي 5 ماي قدمت الدعاية الرسمية الفرنسية نبأ بداية المجابهات في المنطقة الشمالية المغربية، وادعت أنها مجرد عملية عادية من عمليات «التهدئة».
وفي نفس اليوم، أفادت وكالة “هافاس” في برقية لها من الرباط أن هذه العملية موجهة ضد «المنشقين» وأن الريفيين هم المعتدون. لكن صحافة الحزب الشيوعي الفرنسي انفكت تماما عن هذه الدعاية الرسمية التي كانت تشكل الخط المحوري لباقي الصحف الفرنسية بتفاوت جد نسبي.
وانبثق عن اجتماعات سرية عقدتها التنظيمات المركزية التابعة للحزب الشيوعي، بمقر جريدة “ليمانتيه” وكذلك في مقر الحزب بباريس، برنامج عام للتصدي لدعاية الاستعمار الفرنسي الخاصة بالمغرب، في ثلاث نقط:
1- ضرورة تنظيم لقاءت ومظاهرات ضد العمليات العسكرية في المغرب.
2- تعبئة الشبيبة الشيوعية في باريس وضواحيها، لتنشيط الدعاية ضد الاستعمار في صفوف الجالية المغاربية العاملة بفرنسا.
3- توجيه نداءات إلى الجنود الفرنسيين للتآخي مع الريفيين.
وكان الحزب قد وجه النداء يوم 13 ماي 1925 قصد شن حملة واسعة النطاق ضد «حرب المغرب». وهو النداء الذي تأسست على إثره نفس اليوم «لجنة العمل المركزي»، وقد انضم إلى هذه اللجنة، إضافة إلى ممثلين عن الحزب، ممثلون عن الكونفدرالية العامة للعمل الوحدوي، والفيدرالية الوطنية للشبيبة الشيوعية، والجمعية الجمهورية لقدماء المحاربين. و أنيطت مهمة تنظيم مهرجان خطابي تعبوي كبير بهذه اللجنة، وهو المهرجان المعروف في السجل النضالي ب «لقاء لونابارك» الذي تم تنظيمه يوم 16 ماي 1925 خصيصا لمساندة الريفيين.
مهرجان « لونابارك» الخطابي
حسب تقديرات وزرة الداخلية جمع لقاء لونابارك حوالي 3500 شخص، أما جريدة “ليمانتيه” ليوم 17 ماي 1925، فقد قدرت عدد الذين حضروا هذا اللقاء بما لا يقل عن 15000 شخص. ومهما يكن من أمر، فإن الإقبال على مهرجان لونابارك كان حاشدا. والأهم من ذلك هو أن هذه التظاهرة الخطابية كانت إيذانا بالانطلاقة الفعلية لحملة الحزب الشيوعي الفرنسي ضد سياسة الاستعمار الفرنسي في المغرب عامة، وفي منطقة الريف على وجه الخصوص.
افتتح المهرجان أشغاله على الساعة التاسعة وعشر دقائق من مساء يوم 16 ماي 1925، وكان أول من أخذ الكلمة هو الكاتب العام لنقابات “السين”، حلل فيها أحداث المغرب بالموازاة مع تلك التي شهدها البحر الأسود عام 1918: «هاتان الحربان ليستا دستوريتين، إننا نتمنى أن يحدث عصيان في صفوف الجيش الفرنسي الموجود على خط النار في مواجهة الريفيين، وسيكون هذا شرف للطبقة العمالية الفرنسية». وقال ممثل الفيدرالية الشيوعية لمنطقة باريس: «لقد وعد تحالف اليسار بالسلام خلال الانتخابات البلدية، وهكذا صوتت لصالحه ملايين من العمال، معتقدة أنها صوتت لفائدة السلام، إنه لمن الضروري أن تكون جماهير التحالف على علم بذلك». وندد هذا المتحدث بسياسة حكومة التحالف التي اعتبرها خاضعة لأوامر بنك باريس والأراضي المنخفضة، ومستنيرة بمشورة ودعم الزعماء الاشتراكيين.
كما دعا الجماهير الكادحة إلى القيام بعمل مشترك ضد الإمبريالية انطلاقا من تظاهرة قوية ضد الحرب الجارية في المغرب: «إنها حرب طويلة ودموية على الأبواب: حرب حبلى بتعقيداتها الدولية. رفاقي العمال، احذروا ! شكلوا لجان وحدتكم العمالية، وعبروا من خلالها عن موقفكم المضاد للحرب الإفريقية، هيئوا عبر دعاية مكثفة مؤتمرا تعبر فيه شغيلة المنطقة الباريسية للحكومة عن إرادتها في إنهاء الحرب الريفية والجلاء فورا عن المغرب». وبعد ذلك، أخذ الكلمة جاك دوريو، العمدة الشيوعي لمقاطعة سان دوني، معيدا إلى الأذهان حملة جان جوريس ضد حرب المغرب: «لو أن هذا الخطيب الشعبي البليغ مازال على قيد الحياة، لأدان المارشال ليوطي والاشتراكيين الذين خانوا القضية العمالية العالمية بتصويتهم على الميزانية».
وأكد دوريو على أن مسؤولية سقوط آلاف من الجنود الفرنسيين فوق التراب المغربي، تقع كاملة على الإمبرياليين والصيارفة الذين جذبتهم وفرة المعادن وإمكانية فتح أسواق جديدة، ومن أجل تحقيق ذلك قضت نحبها هناك أعداد من الفرنسيين والاسبانيين. وأعطى جاك دوريو لمحة موجزة عن تطورات القضية الريفية: «إن الشعب الريفي لم يكن يريد الحرب. في سنة 1922، طلب عبد الكريم وساطة إنجلترا، وكان الرد هو الرفض. فتقدم إلى فرنسا وأرسل مبعوثين إلى ليوطي، وكانت نفس النتيجة.
إن فرنسا لا تريد السلام. ومنذ 1924، اتبعت خطة حربية أخرى، ورغم استفزازات ليوطي، فإن الريفيين يريدون السلام. لقد بدأت الطائرات الفرنسية بقنبلة قرى ريفية معزولة، وأقيم حصار شديد على الريفيين، كما أن منطقة ورغة التي تعتبر مخزن الحبوب بالنسبة للريفيين يوجد الآن جزء منها تحت احتلال الجيوش الفرنسية، إنها المجاعة»، ووجه دوريو أمرا للجنود الفرنسيين يدعوهم فيه للتآخي مع الريفيين. بعده، تدخلت سيزان جيرو لتخاطب جمهور النساء، مذكرة بأهوال حرب 1914 وعمليات «حشو الدماغ» الدعائية التي واكبت هذه الأحداث الأليمة: «إن رفيقاتنا العاملات يتذكرن كيف تم حشو أدمغتهن سنة 1914. لهذا، فإنهن لن يسمحن هذه المرة تكرار ذلك. و من جهة ثانية، فإن النساء يردن الدفاع أكثر فأكثر عن حقوقهن السياسية، ولهذا جئن بكثرة إلى هذا المهرجان. إنه من الضروري أن تقوم النساء بدعاية مستمرة ضد حرب المغرب في المعامل، في الأوراش، وفي الإدارات».
وباسم الجالية الشمال-إفريقية بفرنسا، ألقى الكلمة محمود بن الأكحل، الذي دعا المسلمين إلى عدم إعطاء أي مصداقية للدعاية الكولونيالية الخاصة بحرب المغرب، و نادى بإعلان الكفاح ضد «الطغاة من كل الأعراق»، مضيفا: «إن الريفيين سيشترون غدا ببضع دولارات، فرنكات، جنيهات، وماركات، لأن المسلمين تركوهم للإبادة، وهم إخوانهم الأشقاء في الدين وفي القلب». وألح بن الأكحل في كلمته على مكافحة البورجوازية الأوروبية بالاعتماد على الحزب الشيوعي الفرنسي، واختتم قائلا: «ماذا تنتظرون، معشر المسلمين، لقد آن الأوان لتتحرروا من نير الإمبريالية الفرنسية والدولية.
باسم قبائل الجزائر، أدعوكم لتحرير الريف». وعبر لامين سنغور – الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للسنغال وكان إذاك يعمل ساعيا للبريد في فرنسا – عن استيائه بصدد حملة التعبئة العامة التي استهدفت السود في بلده، لأجل تجنيدهم ضد الريفيين: «تتم اليوم عملية حشو أدمغة السنغاليين، تماما كما حدث ذلك بالنسبة للعمال الفرنسيين عام 1914، ويقال لهم إنهم سيواجهون الجنود الفرنسيين في حالة رفضهم التعبئة». ودعا سنغور الآباء الفرنسيين لمنع ذهاب أبنائهم للقتال في المغرب، كما ندد بحالة العبودية التي توجد عليها شعوب إفريقية مختلفة بفعل الإمبريالية الأوروبية. وكانت هذه العبارة ختاما لخطابه: «يا شعوب كل البلدان، اتحدوا، كسروا أغلالكم، وتآخوا».
وباسم الجمعية الجمهورية لقدماء المحاربين، تمنى ديكلو لهذا المهرجان أن يخلف آثارا واسعة، حتى يتضح لعبد الكريم أن الطبقة العمالية الفرنسية لا علاقة لها بهذه الحرب المفروضة من طرف الرأسمالية الدولية. وأن البرولتاريا الفرنسية لا تتحمل أي مسؤولية في هذا الشأن، وأضاف: «يجب أن تقطع البحر أصداء هذا المهرجان لتبلغ الريفيين الذين يكافحون من أجل الدفاع عن بلدهم تحيات الشغيلة الباريسية». وانتقد فرانسوا شاسين، العضو في اللجنة الخاصة بالإعلام السياسي للحزب الشيوعي، مواقف الصحافة البورجوازية التي تجزم أن حرب المغرب ما هي إلا مجرد عملية أمنية: «إن الخسائر في صفوف قواتنا هامة، ونتوصل من مصادر مختلفة بأخبار مصرع رفاقنا، وفي كل يوم تغادر قوافل دعم عسكرية جديدة في اتجاه المغرب، إن هذه الحرب طال أمدها، ومن الواجب على جنودنا أن يتآخوا مع الريفيين».
كما انتقد ترانت الرقابة الشديدة التي يمارسها تحالف اليسار الخاضع لنفوذ الأوساط المالية. واختتم المهرجان أعماله على الساعة الحادية عشرة والربع ليلا بقراءة البيان الختامي الذي تمت الموافقة عليه بالإجماع. وكان كليمان ديسيسكلاد، عضو مكتب التنظيم باللجنة المركزية للحزب، هو الذي ألقى التقرير النهائي: «إن العمال البارسيين ال15000، المجتمعين بلونا بارك، وبعد استماعهم لمختلف التدخلات، ليعلنون عن تنديدهم بالطبيعة اللامشروعة لحرب المغرب.
وهي حرب أرادتها وخططت لها منذ سنتين الطغمة العسكرية بالرباط، امتثالا لأوامر التكتلات المالية وبنك باريس والأراضي المنخفضة، من أجل الاستحواذ على ثروات الريف المعدنية، وإخضاع الشعب الريفي، هذا الشعب المسالم الذي قدم تضحيات جسام من أجل الحفاظ على استقلاله. لذا يعبر المجتمعون بلونابارك عن إرادتهم في مكافحة هذه المجزرة بكل الوسائل النضالية الفعلية، الكفيلة بتحقيق سلام فوري في الريف، والاعتراف بالجمهورية الريفية، والجلاء عن المغرب».
يمكن القول، بعد مهرجان لونابارك الخطابي، إن حملة الحزب الشيوعي الفرنسي ضد حرب الريف قد رسمت أفق العمل النضالي، وأشارت إلى طبيعة الوسائل التي يمكن توظيفها لبلوغ ذلك الهدف. ولم يبق إلا الممارسة الميدانية الفعلية لتجسيد الالتزام داخل فضاء إديولوجي واضح المعالم، أصبح يفرض نفسه في المعترك السياسي الفرنسي.