للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة العاشرة:
كان الرأي العام المحلي في المغرب يخضع للرقابة المشددة التي تمارسها عليه أجهزة الاستعمار المختلفة منذ إعلان الحماية. و جاءت حرب الريف لتزيد في الطين بلة، خاصة لما قررت فرنسا الزيادة في حدة تضييق الخناق على إمكانية حرية التعبير في كافة بلدان إفريقيا الشمالية، وذلك في إطار ما أسمته ب«نظام الدفاع الموحد ضد الدعاية الشيوعية».
وتحت وطأة عوامل شتى متداخلة (الترهيب والترغيب والتهديد والتضليل والجوع والجبن والخنوع والانتهازية) تمت عملية تجنيد عشرات الآلاف من المغاربة لمحاربة الريفيين ! ومع ذلك فإن قلوب عامة الشعب المغربي ظلت تخفق لمجاهدي الريف الأحرار.
وكثفت مصالح الاستخبارات من عملياتها تحسبا لكل تحرك منظم من شأنه أن ينسف النسق الكولونيالي من الداخل، وكانت تسجل كل حركات وسكنات رجل الشارع في كل البلدان المغاربية حتى لا تشوش على أكاذيب وافتراءات الدعاية الكولونيالية الرسمية. وكمثال على ذلك ما رصده مخبر السلطات الاستعمارية في الجزائر قبل اندلاع الحرب الريفية بأسابيع معدودة : « المناقشات، الدردشات في المقاهي، الكتب، المجلات، الصحف، المسرح، كل هذه العناصر تم توظيفها. الصحف أو الكتب الممنوعة تتداولها الأيادي، واتباع الزوايا أو التنظيمات الإخوانية يتجولون بجوازات سفر مزورة، والفرق المسرحية تردد أشعارا وأناشيد أو تقدم عروضا هجائية في استطاعة كل واحد فهم مغزاها».
كان هذا المخبر هو صماتي محمد، عضو المجلس الأعلى للجزائر والحائز على وسام «جوقة الشرف». وهو نفس الوسام الذي كان يطمح للحصول عليه الطاهر مهاوي زيدان، المترجم المدني لدى مفوضية الحكومة الشريفة بالرباط، والذي شغل قبل ذلك منصب سكرتير المجلس البلدي بفاس. كان المهاوي مكلفا على الخصوص بتحرير جريدة أخبار تلغرافية الموجهة لتضليل جمهورها المغربي.
قال عنه المقيم العام تيودور ستيج: «لقد كان السيد الطاهر مهاوي في كل الأنشطة التي زاولها، متعاونا نافعا ووفيا للقضية الفرنسية. لقد أسدى لنا على امتداد سنوات الحرب، ثم خلال الهجوم الريفي الأخير خاصة بصفته عنصر استخبارات ودعاية، خدمات ثمينة جدا». كان المغرب يزخر فعلا بعملاء من هذا الصنف، ساعدت خدماتهم الاستخبارية والتشويشية على زرع ألغام خطيرة داخل حقل الرأي العام الوطني.
وكانت جريدة الإصلاح في المنطقة الاسبانية تعتبر منبرا شبه رسمي للمفوضية العليا الاسبانية بالمغرب، وتلعب نفس الدور الدعائي الذي كانت تلعبه أخبار تلغرافية في المنطقة الفرنسية إلى جانب مثيلتها السعادة.
أما في المنطقة الدولية فقد كانت تصدر بها جريدة إظهار الحق التابعة لفرنسا، و كلها جرائد كانت تستهدف تضليل الرأي العام المسلم في المغرب وتخاطبه بلغة عربية تغلب عليها الركاكة وتشتم منها رائحة التصنع والمحاكاة السخيفة للغة القرآن وأسلوب الحديث الشريف.
أما فيما يخص الصحف الناطقة باللغات الأجنبية فلم تكن هناك أية صعوبة في مراقبتها، بل وتسخيرها كأبواق دعائية موجهة على الخصوص للجاليات الأجنبية التي كانت تزاول أنشطة متعددة في كل القطاعات الحيوية. وكانت صحف مجموعة ماص لافيجي ماروكان و لوبوتي ماروكان إلى جانب جريدة لابريس ماروكان من أهم جرائد المنطقة الفرنسية آنذاك. كان لا يهمها من حرية التعبير إلا ما تنشره الإقامة العامة من بلاغات أو يرد على صفحاتها من تعاليق مؤيدة للنشاط الاستعماري على أرض المغرب. وبالطبع، كانت تخصص أعمدة للترهات الرامية إلى تسلية المعمرين وتذكية حماسهم الاستغلالي.
أما العنصر الغائب في كتاباتها فهو الإنسان المغربي الذي لم تكن الصحافة لتعترف له ولو بجزء بسيط من الكرامة. وهكذا، نظرت إلى الثورة الريفية نظرتها البئيسة مرددة نفس الشعارات الدعائية التي كانت تطلقها دائما على القبائل المغربية بصفة عامة. و كانت مصالح الرقابة والاستخبارات تنصح الصحف الفرنسية الصادرة بالمغرب بعدم التطرق إلى الأخبار الساخنة نظرا لسرعة «تأثر» الأهالي وكثرة «انفعال» المغاربة.
وأثار الحاكم العام للجزائر، موريس فيوليت، انتباه وزير الداخلية الفرنسي إلى طريقة صياغة بعض البلاغات الصحفية التي ترد فيها جملة مثل: «خسائرنا همت على الخصوص قوات الأهالي». وبناء على ذلك تم تشديد الرقابة على كل خبر يتعلق بالخسائر التي ألحقها الريفيون بصفوف المتعاونين المرتزقة، حتى لا تشكل عنصرا ذا مصداقية تستغله الدعاية المضادة.
كما شددت الرقابة على المراسلات الخاصة، وكان هذا الإجراء يمكن السلطات الكولونيالية من معرفة ما يضمره الشارع المغربي وما يشغل باله، وحظيت مراسلات «المتعاونين» المغاربة مع الجيش الكولونيالي باهتمام جد مركز، حتى لا تنشر رسائلهم البلبلة في أوساط السكان المحليين. وفي هذا الموضوع بالضبط كتب ليوطي إلى المسؤولين العسكريين في الجبهة الريفية وفاس ومراكش ومكناس، رسالة يثير انتباههم إلى هذا النوع من المراسلات: «واحدة من هذه الرسائل مبعوثة من أحد عناصر الفرقة الثالثة التابعة لكتيبة القناصة المغاربة الثانية والستين، تعلن أن السلطات الفرنسية مقبلة على تنظيم «حركات» في جنوب البلاد، وتوصي بعدم الانخراط تحت إغراء العلاوات.
كما تعطي أرقاما تتعلق بالخسائر ومعلومات أخرى من شأنها أن تعرقل عمليات تجنيد جديدة لدعم قوات جيوشنا المغربية». و نفس الإجراء اتخذه الحاكم العام للجزائر تجاه مراسلات «المتعاونين» الجزائريين الذين كانوا يقاتلون في الجبهة الريفية تحت العلم الفرنسي.
تمت إذن محاصرة الرأي العام المحلي واستعملت كل الوسائل المتاحة قصد تلجيمه وتكبيله وتضليله. وما كانت تخشاه السلطات الكولونيالية على الخصوص هو دور مراسلي الصحف الأجنبية في الكشف عن أجزاء من حقيقة الصراع وظروف ملابساته. كانت تتمنى أن تخوض حرب إبادة ضد الريفيين بعيدا عن أنظار الرأي العام العالمي باستثناء ما كانت أجهزتها الدعائية تسهر على ترويجه.