للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة العاشرة:
اهتم الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية بأحداث الريف، رغم بعد المسافة جغرافيا وثقافيا. و لم تكن الولايات المتحدة معنية بصفة مباشرة بالحرب الكولونيالية في افريقيا الشمالية، لكن عندما اندلعت حرب الريف في بلد شهد تطاحنات القوى الإمبريالية على أرضه، و التي سبق أن أدى تضارب مصالحها إلى أزمة أوربية خطيرة، استرعى المغرب انتباه الأمريكيين أكثر من ذي قبل، سيما وأن أصداء الحرب العالمية ما زالت عالقة في الأذهان. وبما أن الأمريكيين عرفوا خلال تاريخهم القصير وضعا كولونياليا وقاوموه حتى الاستقلال، فقد كان هذا عاملا إضافيا في إثارة اهتمامهم بما أعلنت الثورة الريفية للعالم القيام من أجله. هكذا تجندت الصحف الأمريكية لتغطية الحرب الريفية وتزويد الرأي العام ما وراء الأطلنطي بتحليلات صادرة عن نظرة مغايرة شيئا ما للنظرة الأوربية.
ويعد سكوت مور من بين الصحافيين الأمريكيين الأوائل الذين اهتموا بالريف، حيث أجرى حديثا صحفيا مع عبد الكريم يوم 10 أكتوبر 1924، قام خلاله محمد بوجبار بدور المترجم. تبعه بعد ذلك مراسل جريدة شيكاكو تربين، شاين، الذي وصل إلى طنجة يوم 5 فبراير 1925 قادما من أجدير ومرتديا ملابس مغربية. وقد بعث المراسل شاين إلى جريدته أكثر من عشر مقالات حول المغرب بصفة عامة و حول الريف بصفة خاصة. وفي مراسلة للمارشال ليوطي موجهة إلى وزارة الخارجية الفرنسية، ورد تعليق بصدد مهمة شاين الصحافية في المنطقة الريفية، يبدو فيه ليوطي غير مرتاح لعمل الصحافي الأمريكي: « إن السيد شاين رجع وهو كله إعجاب بعبد الكريم وحاشيته (…) يبدو لي أن هذا المدافع عن عبد الكريم مهيأ لإصدار أحكام ضد سياستنا الريفية ».
وفي 5 ماي 1925 خصصت جريدة نيويورك تايمز مقالا افتتاحيا ل« العمليات الفرنسية بالمغرب »، قدمت فيه لقرائها الموقف الرسمي للسلطات الكولونيالية. « فبعد انسحاب القوات الإسبانية، التي تمسكت بمشقة الأنفس بشريط أرضي ضيق ومحصن يوجد على ضفة البحر الأبيض المتوسط، تقول الجريدة، لم يباغت الهجوم الريفي على المنطقة الفرنسية القيادة العسكرية الفرنسية». وإذا كان عبد الكريم ينظر إلى الجنوب فلأنه، حسب نيويورك تايمز، كان مجبرا على ذلك بدافع “الحاجة والطموح”.
أما الانهزامات المتتالية التي سجلها الإسبان في مواجهة الريفيين، فإن الصحيفة تعزوها إلى ضعف المعنويات… وعن الحركة الريفية والإدارة الكولونيالية، كتبت نيويورك تايمز : « لقد نجح عبد الكريم في إخماد النزاعات التقليدية بين عرب السهول وبرابرة الجبال، وأعطى لحملاته طابع الحرب الجهادية ضد الكفار. ويجد نفسه الآن مرغما من طرف أتباعه المتزمتين على متابعة جهاده ضد الفرنسيين، بحيث طالبوه بتنصيب نفسه، في فاس، خلفا للسلطان الخائن الذي قبل باعتلاء عرشه وفقا لإدارة محتل أجنبي. (…) لقد تخلى الفرنسيون عن نظام الإدارة الكولونيالية القديم، واستفادوا من تجارب اللورد كرومر في مصر، وهكذا حافظوا على نفوذ السلطان وعلى الإدارة الأهلية. ويرى الملاحظون الأمريكيون أن تقدما ملموسا قد تحقق في ميدان التربية والتعليم ». وعبر وايسك، الذي كانت جريدة نيويورك تايمز في ملكيته، عن وجهة نظره التي تتلخص في كون فرنسا دأبت على تكثيف حملاتها العسكرية في كل من المغرب وسوريا. لكن كلامه هذا لم ينشر وإنما قيل خلال مأدبة عشاء أقامها على شرفه السفير الفرنسي في واشنطن.
كما نشرت جريدة ورلد، الصادرة في نيويورك، مقالا افتتاحيا بتاريخ فاتح يونيو 1925، خصص ل« السياسة الفرنسية بالمغرب ». وتساءلت الصحيفة : « الآن وقد حصل السيد بانلوفي، رئيس الوزراء، على أغلبية ساحقة في البرلمان حول مسألة المغرب (537 صوتا مؤيدا مقابل 29 صوتا معارضا)، هل سيضع حدا لنظام السرية الناجم عن تطبيق الرقابة العسكرية ؟ » وأضافت : « استجاب السيد بانلوفي لرغبة الاشتراكيين المتعلقة بالمفاوضات مع عبد الكريم (…) وفكرة الاشتراكيين تكمن بدون شك في خطة ترتكز على التنسيق بين المفاوضة الدبلوماسية والمجابهة العسكرية.
وهي نفس الخطة التي نجحت سنة 1912، بعد تمرد الجيش المغربي في فاس ». وبعد أسبوع على نشرها لهذا المقال الافتتاحي، عادت نفس الجريدة لتدافع بكل وضوح عن سياسة المارشال ليوطي، الذي تقول عنه إنه رغم وجود هيئة من ضباط لهم كفاءة عالية إلى جانبه، فإنه « مع الأسف » يتعرض لحملة وجهها ضده معظم الراديكاليين الاشتراكيين.
وفي 11 يونيو 1925، بعث المراسل الخاص لجريدة نيويورك تايمز ببرقيات إلى صحيفته تختلف لهجتها وتوجهاتها عما صدر في المقال الافتتاحي بتاريخ 5 ماي الذي تمت الإشارة إليه أعلاه. لكن رقابة وزارة الداخلية الفرنسية منعتها وصنفتها من جملة الأنباء المغرضة.. ومما تجدر الإشارة إليه أن الرقابة كان يعاني منها بحدة على الخصوص المراسلون الأمريكيون.
وأجرى فانسان شيان، مراسل نورث أمريكان نيوز بيبر اليانس، حديثا صحفيا مع محمد الخطابي، شقيق عبد الكريم، يوم 13 شتنبر 1925، بتاركيست التي كان يوجد بها مقر أركان الحرب العامة للقوات الريفية. وسجل شيان أنه « خلال الأسبوع الماضي، كان الوضع متأزما جدا بالنسبة للريفيين على إثر الغارات الجوية، ولكن الزعيم الريفي يبدو هادئا». وصرح له محمد الخطابي بأن الريفيين لا يتوفرون على ما تتوفر عليه فرنسا، وأضاف موضحا : « وزيادة على ذلك، حشدت فرنسا على الجبهة الجنوبية ما يناهز 200.000 جندي. هل تعلمون كم هو عدد المقاومين الأقصى الذي تمكنا من حشده في مواجهتهم؟ 18.000 رجل. الآن، لدينا أقل ! ».
وفيما يخص المحادثات الريفية-الفرنسية، صرح محمد الخطابي : « التقيت بالسيد بانلوفي عام 1923، حينما كنت في باريس، وقال لي آنذاك إنه سيعمل كل ما في استطاعته لمساعدتنا على الحصول على الاستقلال وتحقيق السلام ». وبقي المراسل فانسان شيان بضعة أسابيع في الريف، ولم تسمح له السلطات الفرنسية باختراق خطوطها في منطقة وزان والدخول إلى منطقة الحماية رغم تدخل القائم بأعمال السفارة الأمريكية في باريس لدى وزارة الخارجية الفرنسية. وفي شأنه تقول برقية موجهة إلى الإقامة العامة بالرباط من الخارجية الفرنسية : « لقد اتخذ هذا المراسل موقفا محابيا للزعيم الريفي ولا يستبعد أن يكون محملا بتصريح لعبد الكريم يرمي إلى إثارة الرأي العام». لم يتمكن شيان من مغادرة المنطقة الريفية إلا في يوم 30 نونبر 1925، ولكن من الجهة الإسبانية.
وبفعل الاهتمام المتزايد للرأي العام الأمريكي بالقضية الريفية، تأسست جمعية تطلق على نفسها « أصدقاء الريف »، وبعثت على إثر ذلك ببرقية للسلطات الفرنسية تطلبهم فيها إيجاد حل سلمي للقضية الريفية في إطار ثلاثي : فرنسي – إسباني – ريفي.
ويمكن القول إن الرأي العام الأمريكي في مجمله لم يكن منقسما بشأن القضية الريفية، لقد كان مشغولا قبل كل شيء بفهم ملابساتها دون إظهار أي استعداد أو أية نية في الالتزام بفعل شيء ما بصددها، وكمقارنة لموقفه بموقف الرأي العام في دول أمريكا اللاتينية كان الفرق شاسعا. أما مشاركة الطيارين الأمريكيين في الحرب الريفية فلم يكن بقرار رسمي صادر عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.