راضية، سيدة في مقتبل العمر، التقيتها مصادفة ذات صباح عند بائع الخضار القريب من بيت والدتي. بمجرد أن لمحتني أنا ومرافقتي، لم تتردد في الاقتراب منا وقطع حديثنا. كانت عيناها تلمعان، ومن دون سابق معرفة أو كلام، بادرت إلى القول مخاطبة إيانا : “هل يمكنكما مساعدتي، ليس لدي ما أعيل به أسرتي، وأنا في أمس الحاجة إلى أن أشتغل.” اعتقدت في البداية أن حديثها إنما هو تحايل منها للحصول على بعض الدراهم، فكثيرة هي الحالات التي نصادفها. بعضها من باب التسول أو بعضها لأغراض أخرى. قلت لها : “ربما أحتاجك يوما”، أخذت رقم هاتفها، وناولتها نقودا وأنا أعدها بالاتصال بها بعد كثرة إلحاحها.
اليوم، مر على هذا الحادث سنتان أو أكثر، بعد أن أصبحت راضية مساعدة في أحد البيوت، التقيها مرة ثانية، ذكرتني بوعدي الذي لم التزم به بعدما صرفتني عن هذا الوعد صروف الأيام. تبدو امرأة بطبع خاص، متزوجة وأم لأربعة أطفال. منذ أن عرفتها وأنا أرى فيها نموذجا آخر للمرأة المغربية، تعيش ظروفا خاصة. تحكي أنه بالرغم من أنها متزوجة، تظل هي المسؤولة الوحيدة عن إعالة أسرتها، داخل البيت وخارجه. وتذكر أنها كل يوم تتحمل تبعات تأخرها في المجيء صباحا بمزيد من العمل في ذات اليوم. وتذكر لي أن حيلتها في كسب تعاطف مشغليها هو إصرارها عليهم في أن يتفهموا ظروفها فيستجيبوا. تقول راضية بلهجتها القروية : “إنه لا يمكن أن آتي للعمل دون أن أقوم بواجباتي الأسرية على كامل وجهها”. أي أن ترتب البيت، وتطهو الطعام وغيرها من الواجبات الأخرى التي تتحمل هي فيها الأعباء، على الرغم من أن ذلك يؤخرها في العمل إلى ساعات إضافية عن موعد انصرافها.
الجزاء الأوفى الذي ينتظرها مع هذا التأخير المجبر، هو باقة العنف الذي يستقبلها بها زوجها، حتى بات جسدها، تقول بحس ساخر، متعودا على هذه المكافآت التي يكون “كرمه” فهيا لا يطاق. ومع ذلك راضية تقول إنها رغم ذلك فهي تظل راضية، إذ يبدو عليها أنها كسبت دربة في تجاوز طقوس الاستقبال النسائي من زوجها مع كل تأخر تقع فيه، لكنها توقد بعزمها شعلة الأمل والحياة مع رغبتها الكبيرة في تأمين مستقبل أطفالها. لذلك فهي تشتغل كل يوم حتى لو تأخرت مساءا، ولا يمنعها آثار تعنيف زوجها من التغيب عن عملها، إذ سرعان ما تعود في اليوم الموالي بنفس التفاصيل، كثير من القهر والعنف، وقليل من الاعتراف والحب. كلما زاد عنف زوجها، كلما ازداد مزاجها في التحدي والقفز على الحواجز التي تنصبها أمامها صروف العمل وسلوك زوجها، وزاد ت في المقابل رغبتها الجامحة في تجاوز الواقع الكئيب الذي زجها فيه أهلها. وتشحذ بهمة كبيرة، عزيمتها في التطلع إلى غد أفضل لها ولأطفالها. وعلقت بعفويتها الناضحة : “لماذا خلق الله الرجال ولماذا علينا الخضوع لقهرهم؟”. ثم تقول وقد طأطأت رأسها أرضا : “لعل الخلاص يأتي من الله”. فهي تخاف، كما أسرت في قولها لي، أن تواجه الحياة لوحدها، وتدرك جيدا أن هذا الرجل الذي يعنفها يملك بيتا باسمه لا تملكه هي، وأنها امرأة أمية جاءت من البادية، لا تملك الحماية اللازمة لمواجهة تبعات طلاقها أن فكرت فيها حتى تنفذ بجلدها من وجبات التعنيف اليومية من زوجها، وقد تصير هي وأبناؤها عرضة لأحشاء هذه المدنية الكبيرة أن تبتلعها وأبناءها دون رحمة. راضية تجهل الوجه الآخر لهته المدينة، وتظن أن العنف الزوجي إنما هو حكر على زوجها وجغرافية محصورة في مساحة بيتها الصغير. قرأت في حديثها وعفويتها، أن واقعها لا يحياه من هم يقيمون في المدينة بظروف أحسن. تعتقد أن ثمة حقوق خاصة للمتعلمات، وثمة امتيازات يضمنها لهن القانون، وثمة أشياء أخرى تجعل المتعلمات بعيدات عن أي تسلط ذكوري، تحفظه أعرافنا الثقافية بكل مشروعية. تعتقد راضية أن النساء الحقيقيات في المدينة هن أفضل وضعا، وهن لسن عرضة لأي تعنيف أو تمييز… وأن تمتعهن بحقوقهن المدنية في التعلم والشغل، جعل حياتهن أكثر ترفا في إعادة توزيع الأدوار داخل الفضاءات الخاصة كما العامة. وأن الدولة تساهم فعلا في مرافقة تطورهن هذا شكلا وموضوعا. لا يا عزيزتي، قلت في نفسي، بينما أقرأ شبه تيه يبرق في عينيها، الحال من بعضه.. الفرق فقط في نوع المساحيق التي تضعها كل واحدة لإخفاء عيوب تمدن مزيف، يطال الشكل دون الأساس. الفرق هو ربما أنها راضية بطريقتها وتصرف كل القهر والتمييز بطريقتها، بينما المتعلمات أكثرا قهرا. ربما يغيب عن راضية أنه كلما ارتفع سقف مطالب نساء المدينة على حد تعبيرها، كل ما كانت تكلفة الفاتورة مرتفعة. كم من المفارقة يطوي هذا الواقع، تبدو فيه هذه المرأة الخارقة في الخفاء غائبة عن التجلي، بينما يسلط على من هم في هذه المدينة أضواء مزيفة. ومع أنه كان اليوم لزاما أن يكون وضع أفضل تعيشه النساء، أفضل مع كل تلك الحواجز التي اخترقناها معا أنا وراضية وأخريات، ممن يحاولن تجاوز إكراهات اليومي بكل تفاصيله الثقافية والحقوقية. ورغم تشابهنا واختلافنا تبقى راضية، نموذجا مصغرا لمئات النساء اللواتي تستثنيهن احتفالات الثامن من مارس من أجندتهن. فراضية ومثيلاتها أحق بالاحتفال، فهن من يجسدن رمزية الذكرى، رمزية لمن قد يقمن يوما ضد القهر والظلم الاجتماعي، ويسمعن أصواتهن للعالم، ويرفعن راية العصيان في وجه كل التمييز الذي يطالهن.
كيف إذن نحتفل ولازالت بيننا الأميات والمعنفات، ولازالت مراكز القرار حكرا على الرجال دون النساء. كيف نحتفل ومنا المتزوجات قصرا وقهرا، كيف نحتفل ولازالت كل مطالبنا وحتى مستحقاتنا مجرد حبر على ورق. كيف نهدي وردة في هذا العيد وثمة أشواك تدمي أنامل من يقطفها.
كل عام ونساء العالم بألف خير.