فاجأ عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية”، الكثيرين، بدعوته إلى إصلاح دستور البلاد، الذي جاء في سياق الربيع العربي.
ومردّ المفاجأة أن بنكيران عمل في ظلّ هذا الدستور رئيسا للحكومة لمدة خمس سنوات، كما عرف عنه “نفور” بيّن من النقاش حول الدستور، مفضلا التركيز على “الإصلاح السياسي”.
وخاطب بنكيران شباب حزبه، في ملتقاهم السنوي في مدينة فاس خلال لقاء مفتوح معه في غشت الماضي، بقوله “لا بد لنا من إصلاح دستوري يوضّح الأمور”. وقال بنكيران، موضحا موضوع التعديل المقترح للدستور، إن “رئيس الحكومة هو رئيس الإدارة، ما ذا يعني هذا؟ وما هي حدود صلاحياته؟ وكيف ستكون علاقته مع جلالة الملك؟” معتبرا أن “هناك فراغات في الدستور يجب ملؤها”.
ولعلمه بأن المعني بتعديل الدستور ليسوا الشباب الذين يخاطبهم، فقد اكتفى بنكيران بما قال، مشيرا إلى أن الوقت “ليس وقت التفصيل في التعديلات المقترحة، لكن المهم هو التوضيح والتحديد”.
وكان خطاب بنكيران بمثابة “إعلان عودة” إلى واجهة الأحداث والفعل السياسي في البلاد، بعد فترة “صمت” دامت بضعة شهور، عقب إعفائه من رئاسة الحكومة وتعيين سعد الدين العثماني خلفا له.
وجاءت دعوة على غير عادة زعيم حزب “العدالة والتنمية”، الذي لم يكن في خطاباته الكثيرة يأبه إلى تفاصيل منطوق الوثيقة الدستورية، فهو، بحسه السياسي، يعرف أن السلطة توجد في منطقة “رمادية” خارج الشكليات الدستورية، وهو الذي كثيرا ما اتهمه خصومه، بل وعاب عليه حتى بعض أنصاره، “تفريطه” في بعض صلاحياته الدستورية أثناء رئاسته للحكومة. كما جاءت الدعوة بعد حوالي 10 أيام من خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى الـ18 لاعتلائه العرش في البلاد، والذي انتقد فيه الطبقة السياسية والإدارة في المغرب، على خلفية “حراك الريف” في الحسيمة ومناطق الشمال.
وكان محمد السادس قد شدّد على “ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة”. لذلك جاءت دعوة بنكيران إلى “تعديل الدستور” في سياق حديثه عن ربط المسؤولية بالمحاسبة و”تحديد المسؤوليات”.
ويرى مراقبون أن بنكيران، من خلال تصريحاته السابقة، يريد أن يقول إن الدستور لا يحدد المسؤوليات بدقة، كما لا يسمح بالمحاسبة السياسية.
وكان الملك قد أمر بالتحقيق في أسباب تأخر إنجاز مشاريع “الحسيمة منارة المتوسط”، الذي أطلق في أكتوبر 2015، مع ترتيب المسؤوليات عن أي تقصير محتمل، كما قرر حرمان 10 وزراء من العطلة الصيفية الأخيرة للوقوف على سير هذه المشاريع.
في المقابل، دعا بنكيران إلى توسيع دائرة التحقيق لتشمل الكثير من المشاريع الأخرى التي صُرفت عليها مليارات الدراهم. ونقلت وسائل إعلام محلية عن بنكيران قوله إنه لم يكن على علم بمشروع “الحسيمة -منارة المتوسط”. كما لم يحضر حفل الإعلان عنه، الذي ترأسه الملك وحضره عدد من الوزراء في الحكومة، التي يرأسها بنكيران.
في هذا السياق، فُهمت تصريحات بنكيران بضرورة “تحديد المسؤوليات” قبل المحاسبة، والتي مفادها أن المشكلة في جوهرها دستوري ومعالجتها تتم عبر تعديل الدستور. وبالرجوع إلى الدستور المغربي نجد أنه في الوقت الذي نص على ربط المسؤولية بالمحاسبة أغفل التدقيق في مسلسل اتخاذ القرار، كما أنه أفرد أبوابا خاصة بالملكية والبرلمان والحكومة، لكنْ لا توجد فيه، وفق خبراء، تدقيقات في العلاقة بين هذه المؤسسات.
ورسم بنكيران من خلال دعوته معالم الإصلاح الدستوري المقبل، والذي في حال حصوله يمكن أن تكون لرئيس الحكومة “مسؤولية حقيقية” على السلطة التنفيذية وأن يكون شريكا فعلياً في السياسيات الإستراتيجية للبلاد، إلى جانب الملك.
وفي تفسيره لدعوة بنكيران إلى تعديل الدستور، اعتبر عبد الرحيم العلام، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية في جامعة القاضي في مراكش، أنه يمكن قراءة الدعوة من خلال مدخلين أساسيين. ووضح العلام، في حديث إلى وكالة “الأناضول” التركية، أن المدخل الأول “تفاعلي” مع الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش “الذي كان فيه طيف بنكيران حاضراً بقوة، والذي فُهم منه أن الملك يحمّل بعض المسؤولية لبنكيران”. وأشار العلام إلى أن “الكثير من تصريحات بنكيران، منذ حوالي عام ونصف العام، إما تكون رداً على محيط القصر الملكي أو تفاعلا مع خطب ملكية”.
وذهب المتحدث ذاته إلى أن “بنكيران يريد أن يقول إن المسؤولية لا تقع عليه وعلى حكومته وإن المنتخبين ليسوا وحدهم المسوؤلين، وإنما جزء من المسوؤلية يتحملها المحيط الملكي ومن عيّنهم الملك والذين هم من أشرفوا مثلا على مشروع “الحسيمة منارة -المتوسط”، ولا يمكن لأمور -أشرف عليها الملك ويعلن عنها بعيدا عن رئيس الحكومة وفي غيابه- أن يتحمل الأخير مسؤوليتها”.
أما المدخل الثاني، حسب العلام، فهو أن “التجربة أبانت لبنكيران، بعد خمس سنوات من رئاسة الحكومة، محدودية الفعل للفاعل السياسي المنتخب في ظلّ الدستور الحالي، رغم أن بنكيران وحزبه صوتوا في 2011 على هذا الدستور وتحمسوا له ولم يلتفتوا إلى الملحوظات التي كانت تطرح بخصوصه آنذاك” واعتبر العلام أنه “بعد خمس سنوات تبين أنه من الصعب العمل في ظل هذا الوضع الدستوري، الموسوم بازدواجية السلطة التنفيذية، والذي يوضح العلاقة بين الولاة الموظفين (المحافظين) والحكومة والمنتخبين المحليين (البلديات) وغيرها من الفراغات”. وأضاف أن “بنكيران، وبعد قضائه عمراً طويلاً في السياسة، اقتنع بأن المدخل الدستوري مهمّ وأساسي للإصلاح، بعدما ظل يعتقد ويصرح بأن المغرب يحتاج أكثر إلى الإصلاح السياسي”.
من جانبه، ذهب توفيق بوعشرين، المحلل السياسي ومدير نشر يومية “أخبار اليوم”، إلى أن دعوة بنكيران إلى تعديل الدستور “عرض سياسي جديد” يعود به بنكيران إلى واجهة المسرح السياسي لمواصلة مشروعه الإصلاحي، بعدما “أبعد عن رأسه فكرة الاعتزال السياسي ولزوم البيت”. ووضح بوعشرين، في مقال له، أن دعوة بنكيران جاءت بعدما “اشتغل في ظلّ هذا الدستور رئيسا للحكومة ووقف -ليس فقط على طبيعة نصه الملتبس ومتداخل الصلاحيات- بل وكذلك على شكل تطبيقه”.
وقال مدير “أخبار اليوم” إن “كلام بنكيران يكشف خطته للرجوع إلى فكرة التعاقد المكتوب عوض الشفوي”، بعدما كان -ولا يزال- يشدد على أنّ أساس العمل السياسي في المغرب هو الثقة والتوافق مع المؤسسة الملكية، رغم أهمية التعاقد والدستور.