24 ساعة- محمد أسوار
أحداث كثيرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، وألقت بظلالها، إيجابا أو سلبا، على الشأن السياسي والاقتصادي والفكري للمملكة، بعضها يتذكرها الجيل الجديد من المغاربة وأخرى صارت في خبر كان.
في هذه الزاوية والتي تنشر على شكل حلقات رمضانية، تنبش ” 24 ساعة” في الذاكرة المغربية، من خلال محطات بارزة، سواء كانت أحداثا أو شخصيات، طبعت حقبة معينة من تاريخنا المعاصرة.
الحلقة الخامسة: ”عياض”.. قاضٍ لا يريد أن يعترف بـ ”المهدي المنتظر” فذُبح وقُطّع إرْباً إِرْباً
كثيرون هم المفكرين والعلماء الذين ذهبوا ضحية مواقفهم الفكرية ووقوفهم في وجه أهواء السياسيين والزعماء، فدفعوا ثمنا غاليا نظير معاكستهم لمبتغى الحكام رغم مكانتهم الفكرية أو العلمية؛ بل منهم من راح ضحية عدم مجاراته للسلطة، ويتعرض لشتى أنواع التعذيب أو قتله بشكل بشع، كما هو الحال للعلامة المغربي القاضي عياض الذي لقي مصيرا مأساويا، فقط لأنه لا يريد أن يكون ”ناطقا رسميا” لمؤسس الدولة الموحدية وأتباعه خلال القرن الثاني عشر ميلادي.
الولادة والنشأة
رأى القاضي عياض؛ الذي لا تزال مؤسسات تعليمية وجامعية مغربية اسمه أبرزها جامعة ”القاضي عياض بمراكش”؛ النور، وفق مراجع تاريخية، سنة 476 هجرية الموافق لـ 1083 ميلادية بمدينة سبتة المغربية، ويدعى موسى بن عياض بن عمر بن موسى القاضي أبو الفضل اليحصبي البستي المُرّاكِشي.
نشأ بمدينة سبتة وبها أخذ العلوم الدينية على يد ثلة من المشايخ الكبار؛ هاجر إلى الأندلس عام 507 هجري، فأخذ عن أعلام قرطبة ومرسية وفى سنة 531 هجرية، انتقل إلى غرناطة ليتولى قضاءها، وعاد إلى سبتة ثماني سنوات بعد ذلك أي في سنة 539 هجرية، وصار قاضيا بها.
تتلمذ عياض على يد شيوخ وعلماء أندلسيين معروفين، أبرزهم القاضي أبي علي بن سكرة الصدفي أبي بحر بن العاص، ومحمد بن حمدين، وأبي الحسين سراج الصغير، وأبي محمد بن عتاب، وهشام بن أحمد، وتفقه على يد أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي، والقاضي محمد بن عبد الله المسيلي.
كما لقن العلم للعديد من العلماء منهم الإمام عبد الله بن محمد الأشيرى، وأبو جعفر بن القصير الغرناطي، والحافظ خلف بن بشكوال، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري، ومحمد بن الحسن الجابري، وولده القاضي محمد بن عياض قاضي.
القاضي عياض عالما
عرف عن القاضي عياض غزارة العلم والمعرفة، وكانت جل حياته موزعة بين طلبه وتلقينه والاشتغال به، كان قاضيا بارعا ومؤلفا للعديد من الكتب ومحدثا وفقيها مؤرخا أديبا. لكن شهرته بين العامة كانت بسبب مؤلفاته العديدة التي كانت ولاتزال مرجعا أساسيا في تاريخ الحضارة الإسلامية.
ساهم القاضي عياض في ضبط المذهب المالكي وتنقيحه وتطويره، وذلك حين اهتم بتعلم ”المدونة الكبرى” للإمام مالك ابن أنس، على يد مشايخه، فقام بعد ذلك بتحرير روايتها وسمى رواتها، وشرح غامضها، وضبط ألفاظها، وذلك في كتابه “التنبيهات المستنبَطة على الكتب المدونة والمختلطة”، ويعد عمل القاضي عياض خطوة مهمة في سبيل ضبط المذهب المالكي وازدهاره.
ساهم القاضي عياض في مجال التاريخ أيضا، وألف كتابا قيما اسمه” ترتيب المدارك”، ويعتبر أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة “الموطأ” وعلمائه، وفيه دافع عن المذهب المالكي وحاول ترجيحه على باقي المذاهب الأخرى. كما خص كتابه الشهير “الغُنية”، لمدح علمائه وتلاميذه.
وتناول حياتهم ومؤلفاتهم وما لهم من مكانة ومنزله وتأثير، كما أفرد مكانا لشيخه القاضي أبي على الحسين الصدفي في كتابه “المعجم” تعرض فيه لشيخه وأخباره وشيوخه، وكان “الصدفي” عالما عظيما اتسعت مروياته، وصار حلقة وصل بين سلاسل الإسناد لعلماء المشرق والمغرب؛ لكثرة ما قابل من العلماء، وروى عنهم، واستُجيز منهم.
غزارة علم القاضي عياض لم تتوقف عند هذا الحد، بل كان أديبا وشاعرا، أسلوبه رائع يشهد على ثقافة لغوية متمكنة وبصر بالعربية وفنونها، ولم يكن ذلك غرا عليه؛ فقد كان حريصًا على دراسة كتب اللغة والأدب حرصه على تلقي الحديث والفقه، فقرأ أمهات كتب الأدب، ورواها بالإسناد عن شيوخه مثلما فعل مع كتب الحديث والآثار، فدرس “الكامل” للمبرد و”أدب الكاتب” لابن قتيبة، و”إصلاح المنطق” لابن السكيت، و”ديوان الحماسة”، و”الأمالي” لأبي علي القالي. وكان لهذه الدراسة أثرها فيما كتب وأنشأ، وطبعت أسلوبه بجمال اللفظ، وإحكام العبارة، وقوة السبك، ودقة التعبير. كما نظم الشعر حول النسيب والتشوق إلى زيارة قبر الرسول.
المحنة الكبرى
لم تشفعه مكانته ولا علمه الغزير من الأيادي التي غدرت به سنة 1149 ميلادية، بعد سقوط الدولة المرابطية، وحلت محلها دولة الموحدين، فكان من الطبيعي أن تتغير عقيدة الدولة الجديدة التي أسسها ابن تومرت، وطبيعي أن يحتاج الأخير إلى علماء ” يطبلون” له ولمعتقداته الجديدة، وبما أن ابن تومرت ادعى انه ”المهدي المنتظر”، وتخلى عن المذهب المالكي ليعتنق آراء المعتزلة والأشاعرة، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع العلامة ”القاضي عياض”، وكان هذا الصدام هو سبب دفع الثمن غاليا، حين تم قتله بوحشية وتقطيعه إربا إربا ورميه في مكان مجهول، من قبل ابن تومرت وأتباعه، بعد أن أسس الأخير، وفق روايات تاريخية، لعقيدته الجديدة بالحديد والنار، حين قتل وسجن وعذب الآلاف مقابل ترسيخ مذهبه الجديد.
وعثر على قبر القاضي عياض سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية السنية التي أسقطت دولة الموحدين.
مؤلفاته
ترك القاضي والعلامة ابن تومرت العديد من المؤلفات والكتب، ذات الأهمية التاريخية والفقهية والأدبية كذلك، وهي عبارة عن مراجع ضخمة تتألف بعضها من عدة أجزاء ومنها:
– الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
– الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.
– ترتيب المدارك وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك.
– الإعلام بحدود قواعد الإسلام.
– مشارق الأنوار في تفسير غريب حديث الموطأ والبخاري ومسلم.
– المعلم في شرح مسلم.
– الأجوبة المخيرة عن الأسئلة المحيرة.
– أخبار القرطبيين.
– بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد.
– التنبيهات المستنبطة في شرح مشكلات المدونة والمختلطة في الفروع.
– جامع التاريخ.
– السيف المسلول على من سب أصحاب الرسول.
– العيون الستة في أخبار سبتة.
– غنية الكاتب وبغية الطالب.
– مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار الموطأ والصحيحين في الحديث.
– مشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث.
– مطامح الإفهام في شرح الأحكام.
– نظم البرهان على صحة جزم الأذان…. “هداية العارفين”
وغيرها من المؤلفات الأخرى التي بوأت الرجل مكانة علمية كبيرة قديما وحديثا.