– محمد أسوار
أحداث كثيرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، وألقت بظلالها، إيجابا أو سلبا، على الشأن السياسي والاقتصادي والفكري للمملكة، بعضها يتذكرها الجيل الجديد من المغاربة وأخرى صارت في خبر كان.
في هذه الزاوية والتي تنشر على شكل حلقات رمضانية، تنبش ” 24 ساعة” في الذاكرة المغربية، من خلال محطات بارزة، سواء كانت أحداثا أو شخصيات، طبعت حقبة معينة من تاريخنا المعاصرة.
الحلقة السابعة: لوناس.. حكاية “غيفارا” إيمازيغن الذي اخترقت جسده 78 رصاصة
رمز من رموز الحركة الأمازيغية في المنطقة المغاربية؛ متمرد عصي على أن تهضمه أنياب السلطة؛ يد الغدر تمكنت منه ولكن بأزيد من 78 رصاصة؛ إنه معطوب لوناس؛ أشهر شخصية أمازيغية على الاطلاق؛ جمع بين الغناء والنشاط السياسي دفاعا عن “القبايل” التي يقطنها أمازيغو الجزائر.
الولادة والنشأة
ولد معطوب الوناس في 24 يناير 1956. بدأ مشواره الموسيقي بالغناء في الأعراس والحفلات الشعبية الأمازيغية، وكان يكتب أغانيه ويلحنها بنفسه. شكلت عودة والده المهاجر في فرنسا إلى الوطن، حاملا إليه قيثارة أجمل هدية تلقاها في حياته، على ما يظهر من كتاب سيرته “المتمرد”، الذي يعد وثيقة تاريخية حية تشهد على تحولات الجزائر المعاصرة بآلامها وآمالها وطموحاتها ومفارقاتها أيضا، ليقول “إنه تمرد ضد الفكر المتحجر والتعصب الديني، والقمع اللغوي والثقافي”.
توجه معطوب نحو فرنسا، وخاض تجربة فنية حقق فيها شهرة بين أوساط الجالية الجزائرية، ومن هناك تابع أحداث “الربيع الأمازيغي”، “كنت متوترا حد السعار لعدم مشاركتي في الأحداث، كنت ممزقاً بين رغبتي الجامحة في أن أكون بين ظهران أبناء منطقتي وبين التزامي الفني”، فقدم أغنية “يحزن واد عيسي” التي ذاع صيتها وخلدت ذكرى الضحايا، ومع مرور الوقت، تحول إلى أسطورة أمازيغية.
وبفضل لونه الغنائي وصوته المميز ومساندته القضية الأمازيغية الجزائرية وفكرة اللامركزية، تعلم معطوب الغناء بشكل ذاتي وأصدر العديد من الألبومات الغنائية الأمازيغية الناجحة، آخرها “رسالة إلى…” الذي صدر بعد اغتياله.
كان يجهر معطوب بأفكاره حول العلمانية والحرية والديمقراطية والأمازيغية، وتسبب اغتياله في قيام مظاهرات احتجاج كبرى، أدت إلى مواجهات بين آلاف قوات الأمن وعشرات الآلاف من المحبين الغاضبين، وتم تنظيم جنازة مهيبة له، حضرها عشرات الآلاف من الجزائريين، وتصدر خبر اغتياله الأخبار في مختلف وسائل الإعلام الجزائرية والأجنبية.
كتب معطوب لوناس سيرة ذاتية مفصلة عن حياته، استعرض فيها عالم طفولته وقريته وظروف الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، والفترة التي تلت استقلال الجزائر، واستعرض القمع الذي تعرضت له الهوية الجزائرية، وتمسكه بأمازيغيته، كما يبين آرائه في القضية الأمازيغية وأسباب إخفاق الأمازيغ في الحصول على حقوقهم.
خلال العشرية الدامية، وثقت أغاني معطوب الوناس أغانيه هذه الفترة بالحزن، أهمها أغنيته في نعي الرئيس محمد بوضياف، وكان رأيه مسموعا ومؤثرا في القبائل، لذلك، أصبح رأس الرجل مطلوبا، وقد وضعته الجماعات الإسلامية على قائمتها السوداء، وفي شتنبر 1994، اختطفته خلية تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة، فخرج الشباب الأمازيغي الغاضب باحثا عن معطوب في أحراش منطقة القبائل، وهددوا بحرب شاملة ضد العناصر الجهادية المتحصنة في الجبال.
ليلة العاشر من أكتوبر، أطلقت الخلية سراح الوناس تحت وطأة الضغط الشعبي، وردا على اتهامه بالانفصالية، ترجم النشيد الوطني الجزائري إلى اللغة الأمازيغية محافظاً على اللحن نفسه، وفي 25 يناير 1998، استقرت في جسد معطوب الوناس 78 رصاصة أثناء عودته إلى منزله ببلدة “بني دوالة”، قرب مدينة تيزي وزو، ولا تزال أغانيه الثورية يرددها مئات الآلاف من عشاقه، وتحول إلى أيقونة أمازيغية.
شهرة بعد الرحيل
مر على رحيل معطوب سنوات عديدة؛ إلا أن إيمازيغن، لا يزال يتذكرونه ويستمعون إلى أغانيه التي كانت سلاحه الوحيد، إضافة إلى آلته الموسيقية، في محاربة الظلم والتخلف والإقصاء. عرف معطوب لوناس بدفاعه القوي عن الثقافة الأمازيغية، مطالبا بإلحاح، إدراجها كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، كما عرف بلطفه وكرمه وتواضعه وعدم اكتراثه بالمال، والدليل أنه كان يرفض رفضا باتا إحياء أية سهرة غنائية مدفوعة الأجر في منطقة القبائل.
الأكيد أن لحلاوة الاستماع إلى أغاني معطوب الوناس، سواء الملتزمة منها أو العاطفية، ذوق خاص، إذ يحمل بألحانه الشعبية إلى عوالم متفردة تجعلك تدخل في دوامة لا يمكن وصفها، مثلما لا يمكنك السير عبر جبال ودروب جرجرة، دون أن تستمع إلى إحدى أغانيه التي تنطق حبا والتزاما بالقضية، والكثير من هذه الأغاني باتت مرافقة لجل النشاطات والمواعيد المرتبطة بكل ما هو أمازيغي في شتى الفنون، لأن معطوب الوناس الذي ظل طوال حياته مثيرا للضجة والجدل، سيظل بعد مماته علامة فارقة في مسار النضال من أجل القضية وفي المكتبة الغنائية الجزائرية.
ظلت اغاني “غيڤارا” إيمازيغن علامة فارقة في الأغنية الأمازيغية الجزائرية، غنّى عن الحب والهوية واللغة، وانتقد الساسة والحكم ولم يغفل معاناة المواطن البسيط، منها التي أثارت جدلًا واسعًا أغنيته “الله أكبر”، التي قدمها في إحدى البلاطوهات التلفزيونية الفرنسية، وأخرى تحت عنوان “أمّا الرصاص الذي قتل لم يقتلني”، وهو في هذه الأغنية يلفت الانتباه إلى نجاته من محاولة القتل التي تعرّض لها خلال مظاهرات 1988 والتي أعقبتها أحداث عنيفة إلى غاية دخول الجزائر في نفق “العشرية السوداء”، بعد توقيف المسار الانتخابي في سنة 1991.
خلّد معطوب تمرده ومعارضته لنظام الحكم في بلاده، ورفضه للإرهاب والتطرّف في كتاب وسمه بــ”المتمرّد”، يقول في الفصل الرابع منه: “إننا مهدّدون في وجودنا وحياتنا وكرامتنا وحريتنا، نريد أن نعيش ونفكّر ونكتب ونغني..”، كما عكس الدفاع عن أفكاره في إحدى مقولاته التي لا تزال خالدة: “أفضّل أن أموت بسبب أفكاري على أن أموت على فراش المرض أو بسبب الشيخوخة”.
وبسبب مواقفه تم اختطاف معطوب الوناس من طرف الإرهابيين سنة، 1994 وعُذّب نتيجة لأفكاره فلم يكن ينافق أحدًا بل كان صريحًا سواءً في خطاباته أو في أغانيه.. ولا يخشى لومة لائم.
لا يزال حبل ودّ الشباب الجزائري ولا سيما أبناء منطقة القبائل لمعطوب الوناس على وصال دائم، فرغم مرور قرابة العشرين سنة على رحيله، نظرة واحدة على التعليقات على فيديوهات وأغاني المرحوم على موقع “اليوتوب” تكفي لأن تقدّم نتيجة إجماع عن حبهّم ووفائهم للرجل المغدور. أمّا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك فقال عن معطوب الوناس قبل مقتله في لقاء تلفزيوني: “كان رجلًا يُسمِع صوت الجزائر بقوّة عالية، صوت جميل، صوت جميل جدًا، أتمنى أن لا يسكت هذا الصوت”.
لم يعش طويلاً ولكنه أثر كثيراً في تاريخ الجزائر المعاصر. انه الفنان والمناضل الأمازيغي الراحل، معطوب الوناس، الشخصية الأكثر رمزية في الحركة الأمازيغية في الجزائر. “استقر مرتاحاً في قائمة القادة الأسطوريين للشعب الأمازيغي كالكاهنة وأكسيل ويوغرطا وماسينسا”، كما وصفه كاتب جزائري.
أثار الوناس جدلاً كبيراً في حياته وبعد رحيله. حاول بأغانيه إعادة كتابة تاريخ موازٍ للثورة الجزائرية في مواجهة التاريخ الرسمي، ودافع من خلال الفن عن المطالب الثقافية والسياسية للشعب الأمازيغي في “منطقة القبائل”، فنجح حيث فشلت الحركات والأحزاب السياسية.
في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، بدأت الحركة الأمازيغية الجزائرية تبلور أفكارها وتوجهاتها. حدث ذلك حين قررت مجموعة من كوادر وأعضاء حزب الشعب، بزعامة مصالي الحاج، الانشقاق عن الحزب بسبب “عدم اعترافه بالهوية الأمازيغية للشعب الجزائري”.
تافسوت-ن- إيمازيغن
في مارس 1980، منعت قوات الأمن الجزائرية ندوة ثقافية كان سيحاضر فيها الكاتب الأمازيغي مولود معمري حول “الشعر في منطقة القبائل قديماً”. كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، فألهبت فتيل المواجهة الشعبية المباشرة بين الشباب الأمازيغي الغاضب والسلطة. وفي 20 أبريل، غصت شوارع مدن القبائل وعاصمتها تيزي وزو بأكبر تظاهرة شعبية منذ استقلال الجزائر فواجتها الشرطة بالرصاص الحي وسقط عشرات القتلى والجرحى في ما عرف بـ”الربيع الأمازيغي”.
قبل ذلك، كان الوناس قد غادر إلى فرنسا وخاض تجربة فنية حقق فيها شهرة بين أوساط الجالية الجزائرية هناك. وسبقت هجرته أداءه فترة تجنيد إجباري عمقت من الهوة بينه وبين النظام إذ يصفها بقوله: “أدركت عبر سنتي التجنيد، أنه لا هدف للجيش سوى تنمية مشاعر الخوف عند الشبيبة إزاء النظام والسلطة”.
من باريس تابع الوناس أحداث تافسوت الذي انتظره طويلاً. قال: “كنت متوتراً حد السعار لعدم مشاركتي في الأحداث، كنت ممزقاً بين رغبتي الجامحة في أن أكون بين ظهران أبناء منطقتي وبين التزامي الفني. غنيت أمام الجمهور وحرصت على ارتداء بدلة عسكرية حتى أقول إننا نخوض معركة”. وكان سبيله لدعم الانتفاضة أغنيته Yahzen El Oued Aïssi التي ذاع صيتها وخلّدت ذكرى الضحايا.
وضع الربيع الأمازيغي أوزاره وتبلورت معه مطالب الحركة الأمازيغية في الاعتراف باللغة الأمازيغية كإحدى اللغات الرسمية ودسترتها ورفع التهميش عن منطقة القبائل اقتصادياً. وردت السلطة باتهامها بالعمالة والتخوين والاستقواء بالأجنبي.
وعام 1988، تجدّدت هذه المطالب خلال الانتفاضة التي عمّت الجزائر ضد نظام الحزب الواحد واحتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتردي. كان الوناس حاضراً هذه المرة وسقط جريحاً في محاول اغتيال فاشلة، ليتحول إلى أسطورة أمازيغية تلهب المسارح كلما صعد عليها.
بعد صعود الجماعات الإسلامية في الجزائر ودخول البلاد مرحلة المواجهة العسكرية خلال “العشرية الدامية”، صار الوناس يقاتل على جبهتين: النظام والإسلاميين، شاهراً توجهاته العلمانية والتقدمية. وتميزت أغانيه خلال هذه الفترة بالحزن وتوثيق ما تعيشه البلد من صراع، وأهمها أغنيته في نعي الرئيس محمد بوضياف.