24 ساعة– محمد أسوار
أحداث كثيرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، وألقت بظلالها، إيجابا أو سلبا، على الشأن السياسي والاقتصادي والفكري للمملكة، بعضها يتذكرها الجيل الجديد من المغاربة وأخرى صارت في خبر كان.
في هذه الزاوية والتي تنشر على شكل حلقات رمضانية، تنبش ” 24 ساعة” في الذاكرة المغربية، من خلال محطات بارزة، سواء كانت أحداثا أو شخصيات، طبعت حقبة معينة من تاريخنا المعاصرة.
الحلقة العاشرة: منت آب.. “أم كلثوم” الذي كاد موتها المفاجئ أن يسبب أزمة بين المغرب وموريتانيا
فاجأت الجميع برحيلها، حين سقطت مغشيا عليها وهي تؤدي “قل للمليحة في الخمار الأسود” بمدينة العيون جنوب المغرب. هي فنانة موريتانية عبرت شهرتها حدود بلدها موريتانيا إلى افريقيا والعالم العربي، واستمتع ملايين الموريتانيين والعرب بصوتها على مدى عقود. بدأت حياتها الفنية في بداية السبعينات حيث مثلت بلادها رسميا سنة 1976 في مسابقة الغناء العربي في تونس وحصلت على المرتبة الأولى بعد ما غنت للشاعر أحمدو ولد عبد القادر وللملحن والمطرب الموريتاني الشهير سيمالي ولد همد فال. تزوجت بالأخير وأنجبا الاثنان اغاني لا تزال خالدة في الذاكرة الموريتاتية. تصف زوجها بالمعلم الأول وصانع ألحانها النادرة وعازفها الذي استلهمت منه الكثير، وقد انجبت منه ولدا هو العازف ولد امني ولد سيمالي وبنتا هي الفنانة فيروز منت سيمالي، بعد ذلك تزوجت ابن خالتها الخليفة ولد ايدة وانجبت منه بنتا. عاشت في قلوب الموريتانيين وأحيت أفراحهم واتراحهم و كانت نموذجا للوطنية و احبت موريتانيا بصدق حيث شاهد الناس دموعها وهي تغني يوم عيد الإستقلال و بمناسبة مرور حمسين سنة على ميلاد الدولة الموريتانية.
إنها الفنانة و”أم كلثوم” موريتانيا، منت سيداتي ولد آبا، المشهورة بلقب “ديمي منت آب”، فمن هي هذه الفنانة؟ وكيف خلدت اسمها في الذاكرة المغربية؟ وكيف كانت نهاية حياتها مأساوية؟
لكل حكاية بداية
رأت ديمي منت آب النور يوم 25 دجنبر سنة 1958 بولاية “تكانت”، من أسرة فنية عريقة، فأبوها لم يكن سوى الفنان سيداتي ولد أب، ملحن النشيد الوطني الموريتاني وأمها هي الفنانة المعروفة منينه منت أعليه.
إقرأ أيضًا
بدأت حياتها الفنية بتعلمها العزف على أوتار “الأردين” على يد والدتها ( آردين آلة عزف وترية موريتانية تستخدمها المرأة فقط حسب التقاليد الموريتانية). بعدها واصلت مسيرتها الفنية بعد زواجها من الفنان الكبير سيمالي ول همدفال، ومن أشهر ما غنت رفقة زوجها (عيد المولود ـ الدعاية ـ الكريه ـ الغرام ـ البهتان ـ الليمون ـ الديوان – احسي كابون……).
غنت منت آب للوطن ومدحت الجيش بأغاني مثل “يا موريتان أعليك أمبارك لاستقلال – نختر عن كل اوطان أوطاني موريتان” ، كما حضرت القضايا العربية والعالمية في أغانيها كغنائها لأجل قضية فلسطين وأيضا ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
مثلت موريتانيا سنة 1976 في مسابقة الغناء العربي في تونس وحصلت على المرتبة الأولى بقصيدتها المشهورة “ريشة الفن” للشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر وبألحان من زوجها ولد همد فال.
لم يقتصر تمثيلها فنيا لموريتانيا على ذلك فحسب؛ بل رفعت علم بلدها عاليا بمختلف محافل العالم. ظلت ديمي تحتل مرتبة كبيرة في نفوس شعب البيظان خاصة والموريتاني والعرب عامة وتغنى عليها عمالقة الادباء والمغنيين من أمثال همام أفال وإبراهيم ولد أكليب الشيخ ولد بلعمش وغيرهم.
نهاية مأساوية
بينما كانت فوق الخشبة وهي تؤدي أغانيها في سهرة أمام جمهورها بمدينة العيون يوم 26 من شهر ماي سنة 2011؛ سقطت فجأة وبدون سابق إنذار وأغمي عليها. ورغم تدخل مسؤولين موريتانيين ومغاربة من أعلى مستوى لانقاذها؛ إلا أنها فارقت الحياة داخل المستشفى العسكري بالعاصمة الرباط بعد مرور عشرة أيام على ذلك الحادث المأساوي، ليتم إعلان وفاتها بشكل رسمي يوم 04 من شهر يونيو 2011. بعدها بيوم واحد فقط تم نقل جثمانها عبر طائرة خاصة إلى بلدها موريتانيا.
لم يحظ مرض الفنانة ديمي باهتمام السلطات الموريتانية، وفق فعاليات موريتانية، أبرزهم رئيس المعارضة الموريتانية احمد ولد داداه، الذي انتقد ذلك الموقف واصفا اياه بالمخجل و”عدم المسؤولية ونكران للجميل اتجاه شخصية وطنية بحجم ديمي صاحبة الحنجرة الذهبية التي تركت بصمة في الغناء”.
وأرسلت الحكومة الموريتانية، حين وفاتها، وزيرة الثقافة بطائرة خاصة لنقل جثمان الراحلة، التي فارقت الحياة بعد أن تدهورت حالتها الصحية بشكل مفاجئ ، حيث أصيبت بارتفاع سريع ومفاجئ في ضغط الدم، مما استدعى نقلها على الفور إلى المستشفى.
وبرحيل منت آب خسر الفن الموريتاني إحدى أبرز دعائمه وأكثرها تأثيرا في مسيرته خلال العقود الأخيرة، خاصة أنها من أبرز رموزه وأوسعهم جمهورا وأكثرهم شهرة وعطاء خلال العقدين الأخيرين. ولم تكتف منت آب بشهرتها المحلية الطافية، بل سافرت وشاركت في الكثير من المواسم والمناسبات الفنية خارج البلاد.
في مقابلة صحفية هي الأخيرة على مايبدو؛ أكدت ميدي منت آب، لوكالة أنباء الأخبار الموريتانية أنها أول من غنى لفلسطين في موريتانيا، وأن القضية الفلسطينية قد تركت في نفسها صدمة كبيرة “جعلتني لا أستطيع مشاهدة التلفاز حتى الآن، خوفا من التأثر النفسي الكبير الذي تسببه لي رؤية أهلي وإخوتي وهم ينكل بهم على مرأى ومسمع من الجميع”.
وذكرت في تلك المقابلة أن احتلال العراق جعل “القضية قضيتين وأثقل ذلك من همومي تجاه هذه القضايا التي يتأثر لها غير المسلم فما بالك بي وأنا العربية المسلمة”.
موت كاد أن يعكر صفو العلاقات
أوردت تقارير إعلام موريتانية أن وفاة الفنانة ديمي منت آب، كاد أن يتسبب في أزمة سياسية بين موريتانيا والمغرب.
ووفق التقارير فإن القصة بدأت حين وصول طائرة موريتانية خاصة لنقل جثمان فقيدة الفن الموريتاني، حيث وصلت وزير الثقافة في وقتها سيسة منت بيدة على نفس الطائرة وهي تحمل تكاليف علاج المرحومة ديمي في المستشفيات المغربية مرسلة من طرف الرئاسة الموريتانية؛ بينما اعلنت إدارة المستشفى المغربي الذي توفيت فيه الفنانة أن ملك المغرب، محمد السادس، قرر تحمل جميع التكاليف المالية لعلاج ديمي، كما قرر تجهيز طائرة مغربية خاصة لنقلها لموريتانيا. كما أن عائلة الفنانة رفضت تسلم المبالغ المالية المرسلة من الرئاسة من الوزيرة سيسة بسبب عدم وجود تكاليف لدفعها بعد تكفلها من طرف الملك المغربي، وكادت هذه القصة أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه حين أصر الرئيس الموريتاني الأسبق، محمد ولد عبد العزيز، على اقلاع الطائرة فورا. لكن المستشفى المغربي، وفق نفس المصادر، رفض تسليم جثمان ديمي إلا في إذا كان سيتم نقله عبر طائرة مغربية حسب التعليمات الملكية. لكن تدخل مدير الديوان الملكي حسم الأمر بعد استقباله لعائلة ديمي الامر، حيث اكدت العائلة رغبتها في عودة جثمان ديمي إلى وطنها عبر طائرة موريتانية لتنهي خلاف كاد يعصف بالعلاقات الموريتانية المغربية في وقتها.
