24ساعة-متابعة
على غرار كل ربوع الوطن وبحكم الموقع الجغرافي للمملكة, ظلت منطقة الريف بالشمال المغربي محط أطماع أجنبية وأمبريالية. لكن ساكنتها كانت لها بالمرصاد بفضل رجالاتها ومقاوميها من مثال محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاد ثورة لا نظير لها في العالم ضد الاستعمار الاسباني جسدت التلاحم بين المغاربة.
ولتسليط الضوء على هذه المقاومة الوطنية, تقدم جريدة “24 ساعة ” لقرائها بمناسبة شهر رمضان الأبرك فصولا من تلك المعارك الجهادية وتأثيراتها وهي مستقاة من من كتاب ” محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة الى الوطن” لمؤلفه الاعلامي ووزير الاتصال الراحل محمد العربي المساري والصادر سنة 2012 عن المركز الثقافي العربي, والذي يجيب عن ” بعض التشويش الفكري الذي يصاحب اليوم المسألة الريفية برمتها. وكما يقول فانه “في زمن الوسوسة بالنعرات يجب أن نستمع الى صوت الخطابي وهو يدعو الى الارتقاء بفكرنا السياسي من نطاق الجزء الى مستوى الكل. من الاقليمية الانعزالية الى أفق الوطن الذي يستوعب الجميع, والذي لا غنى فيه عن أحد” / ص:8/.
الحلقة الثامنة عشر : قبائل الريف وغمارة في مواجهة “المتمردين”
لم يتمكن الأمير دائما من إقناع كل الزعامات القائمة بأطروحته، بل إنه في وقت واحد اشتعل البارود ضد المجاهدين في كل من مرنيسة وغمارة. كما أنه حصل في الوقت نفسه صدام مسلح مع القايد المدبوح في استعمال ما في طوقه من الصعوبات التي تحمل الريفيين على ترك الدخول للمنطقة الفرنسية بكثرة استنطاقهم وتثقيفهم عن السفر، واستمر إلى جانب ذلك في ممارسة “القيادة ” على النمط العتيق إذ كان يعاكس كل من لم يدفع له الهدية زيادة على الضرائب الكثيرة التي يستخلصها منهم بأعوانه ” (ص 164، الظل).
ولكن هذه الممارسات المتوارثة من النمط القديم لمغرب القبائل، لم تثن الأمير عن مخاطبة المتنمرين كما فعل مع صنهاجة السراير الذين قصدهم ليفتح معهم بابا عساه يؤدي إلى توسيع العمليات الجهادية. وحدث أن الشريف الدرقاوي سبق تلك المبادرة الانفتاحية للثورة، بأن وجه رسالة إلى صنهاجة “يأمر فيها بضرب المجاهدين، ومنعهم من المرور بترابهم، وتكلم مع بني زروال بأن كل من خالط المجاهدين ودفع لهم خبزة فإنه يعاقب على ذلك. فهاجت الأفكار حتى أدى ذلك إلى البارود ” (ص 168، الظل ) . ولما طلب بولحية النجدة من أجدير، صد الأمير عن ذلك باعتبار أن الإسبان يريدون أن ينشغل المسلمون بعضهم ببعض، وأمر وزير العدلية بالرجوع.
كما أن هذه التناقضات لم تكن تستثني قبائل الريف نفسها. فذكر السكيرج أنه حين عزم الأعيان على تنصيب قائد قبيلة بني يطفت “امتنع الشريف احميدو الوزاني الذي له نفوذ وأتباع يخدمونه، ورأى ألا يتولى القيادة أحد غيره”، فاقتضى نظرهم أن يولوه مؤقتا، ولما أمروه ب”الحركة ” مع القبيلة، امتنع عن ذلك بدعوى أن “الشرفاء لا يحركون “، وعين لهم من ينوب عنه . ثم أخذ يبدل نوابه لكي يثبت أنه المتصرف. وذكر السكيرج أيضا أن أحد الأعيان، محمد بن عمر أوشن، كان قد سجن بسبب مخابرته مع العدو وأطلق سبيله بأمر من الأمير، ولكنه لم ينب من ذلك (ص 156 ، الظل).
ولكن برغم هذا وذاك كانت سمعة الثورة تزداد انتشارا. ووصلت أصداء النجاحات إلى جبالة، مما أدى بهؤلاء إلى الالتحاق بالخطابي رغم ما كانوا يعرفون من أصداء الخذلان الذي وقع للمجاهدين، بل إنهم إنما التحقوا بالجهاد هروبا من أجواء مريضة خبروها في منطقتهم. فقد كانوا يتحركون مع الشريف أحمد بن ريسون وكان هذا ينهي أصحابه عن مؤازرة قوات الخطابي، لأنه كان غيورا على سلطته التي بناها عبر عمليات متلاحقة منذ بداية القرن مرة وهو يواجه الحكم المركزي، ثم وهو يواجه جيش الاحتلال الإسباني، غيرة على سلطته.
ويدلي السكيرج ببيانات عن انضمام جبالة ويسميهم “المهاجرون ” فيقول إنه أقبل نحو المائة من بني حزمر، وبني حسان وبني عروس والأخماس وغيرهم. وكان كل ما طلبوه هو مدهم بالمعونة اللازمة فكان لهم ذلك بأمر من الأمير (ص 208، الظل). ويذكر السكيرج أنه بعد ذلك اتجهت همة المجاهدين لمقاتلة العدو، فأخرجوه من موقعة بدار العرقوب. وتم تنصيب القياد وتنظيم العمل. وصدر الأمر بتعيين المجاهد خريرو قائدًا على المجاهدين من الجبل. ويختم السكيرج كلامه عن انضمام جبالة بقوله (ص 209 ) فاتصلت الرابطة القبلية بين قبائل الريف وقبائل غمارة، وجل قبائل الجبل، فتواصلت النيران حتى الشاون وتطوان.
ويؤكد التهامي الوزاني (المصدر المذكور، ص 177) هذه التلقائية، فيذكر أنه بعد أن أقبل غمارة على الخطابي ودانت له مراكز تارغة وتيكيساس وباب عوانة وتيرنس وتلمبوط أقبل جبالة على المجاهدين، “وأعراض الناس عن الريسوني وولوا وجوههم شطر ابن عبد الكريم، والناس بين رجلين، خائف من الزعيم الجديد أو راغب في حكمه، أما الريسوني فتنوسي أمره ” (م . ن . ، ص 169) . وقام بأول حالة انتفاض ضد التعاون مع الإسبان أهل سوماتة وهجموا على مستقى عسكر النوادر في أوائل 1921، وفي 27 و28 من الشهر الأول استولت قبيلة بني يسيف على مركز عقبة القلة. وهذه التواريخ معاصرة لانتصار أنوال وهي سابقة دالة على أن نوازع الجهاد كانت تخترق جبال الريف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ورغم تقلبات الريسوني. ويسمح لنا اقتراب الآجال بين هذه الوقائع والشخوص الأول للسيد امحمد الخطابي إلى غمارة، وهو الذي ربما شجعت عليه الهبة الجبلية الفورية، بأن نتكهن بأن أصداء انتصارات المجاهدين من جهة والتخاذل الذي بدا من الريسوني من جهة أخرى هو الذي حرك الهمم في اتجاه ربط حلقات الجهاد بعضها ببعض.
ويمكن أن نسجل أن التحاق المجاهد أحمد خريرو بحركة بن عبد الكريم كان التقاء بين يقظتين. يقظة فكر سما عن نطاق القبيلة واختار أن يتبلور في أفق الوطن، ويقظة يمثلها القائد الجبلي النابذة لمفاهيم الزعامة الشخصية التي كانت تتمثل في الريسوني، وانضم إلى زعيم اختاره المجاهدون طواعيةً لقيادة حركتهم التي لا يدفعها سوى العمل الدؤوب لمواجهة الاحتلال.
وحينذاك تولى قيادة الجبهة الغربية السيد امحمد شقيق الأمير الذي أسند إليه منذ البداية النظر في ملف غمارة. وحينما أضيفت مناطق جبالة إلى ما سميناه بالجبهة الغربية، أصبح التراب المحرر يقدر بحوالي 14 ألف كم من بين 50 التي هي مجموع مساحة المنطقة “الإسبانية ” نظريا. وهذا ما أدى بالديكتاتور بريمو دي ريفيرا إلى تنظيم انسحاب منظم من “جبح النحل” كما كان يسمي الحرب في المغرب. وكان من نتائج الانتشار غربًا أمران: الاصطدام الحتمي مع الريسوني، والحصول على موقع حضري هو الوحيد الذي ضمه التراب المحرر، وهو مدينة شفشاون التي آلت إلى إشراف المجاهدين في تشرين الثاني نوفمبر 1924 ، بعد أن أخلاها الإسبان في انسحابهم الكارثي الذي تكبدوا فيه خسائر لا تحصى.