24ساعة ـ متابعة
على غرار كل ربوع الوطن وبحكم الموقع الجغرافي للمملكة, ظلت منطقة الريف بالشمال المغربي محط أطماع أجنبية وأمبريالية. لكن ساكنتها كانت لها بالمرصاد بفضل رجالاتها ومقاوميها من مثال محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاد ثورة لا نظير لها في العالم ضد الاستعمار الاسباني جسدت التلاحم بين المغاربة.
ولتسليط الضوء على هذه المقاومة الوطنية, تقدم جريدة “24 ساعة ” لقرائها بمناسبة شهر رمضان الأبرك فصولا من تلك المعارك الجهادية وتأثيراتها وهي مستقاة من من كتاب ” محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة الى الوطن” لمؤلفه الاعلامي ووزير الاتصال الراحل محمد العربي المساري والصادر سنة 2012 عن المركز الثقافي العربي, والذي يجيب عن ” بعض التشويش الفكري الذي يصاحب اليوم المسألة الريفية برمتها. وكما يقول فانه “في زمن الوسوسة بالنعرات يجب أن نستمع الى صوت الخطابي وهو يدعو الى الارتقاء بفكرنا السياسي من نطاق الجزء الى مستوى الكل. من الاقليمية الانعزالية الى أفق الوطن الذي يستوعب الجميع, والذي لا غنى فيه عن أحد” / ص:8/.
الحلقة الواحدة والعشرين: الريسوني في الأسر
كما قلنا سابقا, فان الصدام بين المجاهدين والريسوني لم يمكن تلافيه. فتوجهت قوات مؤلفة في غالبها من رجال المنطقة الجبلية تصحبهم عناصر من الريف ونزلوا بجزء هام من ثقلهم العسكري في معركة أرادوها فاصلة مع الريسوني، شارك فيها حسب أزرقان حوالي ألفي رجل، وهو جيش كثيف لا يتقرر حشده إلا للمعارك الكبرى.
يسجل وولمان من جانبه أن بن عبد الكريم اتصل عدة مرات كتابةً بالريسوني، في بداية أيار/ مايو 1922. كان الإسبان قد وضعوا أيديهم على معسكر الريسوني بعد معارك كلفتهم إحداها فقدان واحد من ألمع قادتهم العسكريين وهو غونثالث طابلاس. ولاذ الريسوني بجبل بوهاشم حتى لا يقع في الأسر. وكانت كل الطرق مقفلة في وجهه باستثناء جهة الشرق المؤدية إلى غمارة والريف. وكان عليه أن يختار بين أن يستسلم للإسبانيين أو أن ينضم إلى بن عبد الكريم، لكنه كان يكره هذا الأخير، لأنه كان يرى فيه منافساً، وكان يطعن في جدارته للرياسة. وفضل أن يتابع مضايقة إسبانيا إلى أن يصل معها إلى اتفاق.
ويظهر أن الأمور لم تكن سيئة دائما مع الريسوني. فقد كشف المرحوم ع.ع التمسماني خلوق عن ثلاث رسائل وجهها الزعيم الجبلي إلى الخطابي، عثر عليها في الأرشيف الإسباني، كلها تصب في وحدة الهدف. الأوليان ترجعان إلى 1921 والثالثة إلى السنة التي بعدها، وفيها جميعا كلام من عمل مشترك محتمل، وهي نصوص في منتهى الود. ففي الأولى وتاريخها 14 صفر 1340 موافق 17 تشرين الأول / أكتوبر 1921 استهلال تمجيدي لم يتغير شكله في كل المراسلات. وهو كالآتي: “أحباءنا في الله، إخواننا المجاهدين في سبيل الله. الفارس الأنجد، والمجاهد المحنك، الطالب محمد بن المرحوم بكرم الله الفقيه العلامة عبد الكريم الخطابي، وكافة أعيان محلتكم السعيدة الموقرة، عموماً وخصوصاً،…إلخ”.
وجاءت هذه المراسلة بعد 3 أشهر من معركة أنوال التي نشرت اسم قائدها في العالمين. وهي جواب عن رسالة من بن عبد الكريم، كانت في ما يبدو للإخبار بعزمه على تعقب الإسبان غرباً نحو غمارة بغية الدخول إلى الشاون. كما تضمنت طلباً للحصول على خيام لإيواء المقاتلين. وفي الأخير كان هناك طلب نصائح عملية عن خطط الحرب. وفي نقط رد عليها الريسوني واحدة بعد الأخرى، مستهلاً رسالته بالتعبير عن السرور، “والشكر لكم عن نهضتكم الحسنة وأعمالكم المستحسنة، العائدة على قطركم بالسعادة بتطهيره من دنس الكفر والشرك… سيما وقد قصدتم بهمتكم العالية وعزيمتكم السامية، تطهير هذا القطر الجبلي الملحوظ يشرف حرم القطب الكامل مولانا عبد السلام”.
وتعرض الريسوني إلى عملية غمارة فنبه إلى أن تلك المنطقة “هي عش الفساد وجميع العقال من أهلها وعلمائها متولون بالسعاية في الخوض والفتنة فيما يرجع لمصلحة العدو”. ولم يفته أن يشير إلى أن “جميع زعماء درقاوة وغيرهم منحازون إلى جانب العدو”. وهو ما لمسه الخطابي في عين المكان. وبعد أن وعد بموافاة المجاهدين بالخيام ، في المكان الذي سيعينه الخطابي لمرابطة رجاله، قدم نصائح بشأن احتلال قشلات (معسكرات) بعينها تقع على الساحل الغماري، ليس لأهميتها العسكرية ولكن “لقطع عروق الفساد المتخللة في قبائلها” وأبلغ مخاطبه بأن ملتقاهما سيكون في بني سيجل.
وجاء في الرسالة الثانية وهي تحمل تاريخ اليوم التالي (18 10 21 ) أن عدد المقاتلين يجب أن يتراوح ما بين 500 و 200 ، وأن يكون الهجوم مباغثاً ليلاً. وأما الرسالة الثالثة فهي بعد عام (10 ربيع الثاني 1341 موافق 30 تشرين الثاني نوفمبر 1922 ) ويقترح فيها الريسوني على الخطابي أن يوجه إليه مبعوثاً عنه “لتقع المشافهة” بشأن الخطط، ويخبر بأنه وجه من جانبه مبعوثاً يحظى بثقته للمذاكرة “في أمور عديدة ومهمة مما أمرناه بتبليغه”، ملحاً دائماً على السرية. ونوه التمسماني بهذه المراسلات باعتبار أنها تقلب التصورات التي كانت سائدة عن العداء المتبادل بين الزعيمين، وهي بذلك تدعو إلى طرح علاقاتهما طرحا جديداً. ولاحظ التمسماني فقط أن الريسوني كان مهتماً بأن يدعو الخطابي إلى التركيز على غمارة، ربما لاعتباره أن الأخماس تقع ضمن مجاله الحيوي. (انظر الاتحاد الاشتراكي، 1988 9 10 ). وهذه المراسلات، تسبق كرونولوجيا الذي نعرف أنه وقع فعلاً، بعد أن دخلت قوات بن عبد الكريم إلى الشاون. وقد يكون التوتر قد تفجر بسبب تداخل مناطق التحرك . وهو ما أدى بالريسوني إلى التصرف بعصبية متناهية حتى أنه سجن الباشا بناينو الذي عينه الخطابي في الشاون. وهو ما أدى إلى المواجهة وإلى اعتقال الريسوني وأخذه أسيراً إلى تماسينت كما رأينا. وتدل تلك المراسلات على أن تفكير الخطابي في الانتشار غرباً قديم يرجع على الأقل إلى أكتوبر 1921.