24 ساعة ـ متابعة
على غرار كل ربوع الوطن وبحكم الموقع الجغرافي للمملكة, ظلت منطقة الريف بالشمال المغربي محط أطماع أجنبية وأمبريالية. لكن ساكنتها كانت لها بالمرصاد بفضل رجالاتها ومقاوميها من مثال محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاد ثورة لا نظير لها في العالم ضد الاستعمار الاسباني جسدت التلاحم بين المغاربة.
ولتسليط الضوء على هذه المقاومة الوطنية, تقدم جريدة “24 ساعة ” لقرائها بمناسبة شهر رمضان الأبرك فصولا من تلك المعارك الجهادية وتأثيراتها وهي مستقاة من من كتاب ” محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة الى الوطن” لمؤلفه الاعلامي ووزير الاتصال الراحل محمد العربي المساري والصادر سنة 2012 عن المركز الثقافي العربي, والذي يجيب عن ” بعض التشويش الفكري الذي يصاحب اليوم المسألة الريفية برمتها. وكما يقول فانه “في زمن الوسوسة بالنعرات يجب أن نستمع الى صوت الخطابي وهو يدعو الى الارتقاء بفكرنا السياسي من نطاق الجزء الى مستوى الكل. من الاقليمية الانعزالية الى أفق الوطن الذي يستوعب الجميع, والذي لا غنى فيه عن أحد” / ص:8/.
الحلقة الخامسة والعشرين : الخطابي والجهاد باسم السلطان
كان الأمير الخطابي حريصاً على أن يوضح الإطار الذي تم فيه تنصيبه لإمارة الجهاد . ومن الواضح أن الهيمنة الفرنسية التي كانت كاملة، قد أحبطت الاتصال بالبلاط اليوسفي الذي لم يكن سيد نفسه بطبيعة الحال. وتتضمن هذه النبذة التي استندنا إليها بنداً مهماً في مواقف الثورة وهو أنها قامت من أجل تحرير الوطن بكامله بتصفية الاحتلال من المغرب بأسره. وسنتطرق في ما بعد إلى بيان موقف الثورة من نظام الحماية برمته.
غير أن الموقف من السلطان يستدعي مزيداً من التفصيل. وهناك تصريح للأمير نفسه تكرر فيه بعد ذلك بسنتين أنه ليس خارجاً على السلطان، إذ جاء في حديث نشرته جريدة “لوجورنال” في 2 كامون الثاني / يناير 1925 أجراه الأمير مع مبعوث الجريدة مارسيلياك، ورد فيه، والثورة تدخل سنتها الخامسة، أن الكثيرين راودوه بشأن إعلان الخروج على السلطان، وأن يتخذ هو لقب السلطان لنفسه، ولكن عبد الكريم قال مارسيلياك ظهر حينما طرحت عليه هذه المسألة الدقيقة، بمظهر رجل حكيم موزون العقل، لم تسكره فتوحاته المدهشة، ولا أضاع في ظفره الحزم والروية، بل إنه أقنع أصحابه بالاكتفاء بلقب “الأمير” ولذلك مغزى كبير، وإذ لو رضي أن يحمل لقب “سلطان” لصعب عليه في ما بعد أن يطيع سلطان مراكش (انظر نص الحديث في “حاضر العالم الإسلامي” لشكيب أرسلان، ص 204، ج 3). وكان المراسل الفرنسي قد وضع عليه السؤال بشكل مباشر قبل ذلك، بخصوص الموقف من فرنسا والسلطان معاً، فقال له: يقال عنك إن مرادك هو الوثوب على المراكز الفرنسية في ورغة، وإذ خرقتها، زحفت إلى فاس حيث يبايعك القوم في مولاي إدريس سلطاناً على المغرب. وأورد المراسل أن جواب الأمير من هذا السؤال الاستفزازي، كان كالآتي: هذه كلمات مسلوب العقل، وأنا ولله الحمد أظن نفسي عاقلاً. وقال في الحديث نفسه إنه كاتب السلطان مولاي يوسف مراراً “بأن يضع حداً لتعدي الإسبنيول بما له من صفة سلطنة المغرب فلم يجاوبني ولا مرة واحدة”.
وهكذا فبعد أربع سنوات من الانتصارات المتوالية، كان الرجل ملتزماً بشكل دقيق بما رسمه من خطط بشأن الأمور المبدئية، رغم أن السلطان مولاي يوسف كان بتحريض من سلطات الحماية قد كرر مراراً نداءات سلبية بخصوص الحرب التحريرية التي قادها الخطابي. ويجدر التذكير أيضاً بأن تلك التصريحات كانت تنطوي على اعتراف بالسلطان، ولكن ضمن الإقرار بأن هناك وضعاً يجعل للفرنسيين الكلمة الأخيرة في شؤون البلاد، وهي تصريحات تتجاهل التقسيم وما نتج عنه من وجود خليفة للسلطان في تطوان.
وفي البداية والنهاية كان الأمير دقيقاً وحذراً في تعامله مع السلطان. ويتحدث السكيرج عن مهمة كلف بها أزرقان في المناطق المجاورة، تم إفشالها من طرف الفرنسيين، حيث كان المقصود هو “التوجه إلى الأعتاب الشريفة بقصد إخبار الحضرة اليوسفية بما عليه الريف وما فعلوه مع الإسبان فيعملوا بعد ذلك بما اقتضاه النظر” (ص 147، الظل). ولعل الدافع إلى إحاطة المخزن علماً بتطور الأحوار في الريف هو القيام بواجب التبليغ، لأن القائد الريفي لم يكن ليجهل مدى محدودية استقلالية قرار المخزن. لكننا نعرف أن غرضه كان دائماً هو طمأنة فرنسا ليتقي شرها إذا أمكن. وهذا ما كلف به أزرقان من جديد (ص 148) في فرنسا التي انتقل إليها من طريق وهران ومارسيليا. مما يشير إلى حرصه الشديد على تجنب الاصطدام وتلافي تعدد الجبهات.
وأورد المؤرخ الفرنسي دانيال ريفيت استناداً إلى بطاقات استعلاماتية حيناً، وإلى تقارير ورسائل متبادلة بين أجهزة رسمية ومسؤولين ساميين فرنسيين، معطيات جديرة بالاهتمام تتعلق بالسلطان مولاي يوسف والمخزن ، وذلك في عرض قدمه في ندوة باريس عن خمسينية الثورة الخطابية. وأشارت تلك المعطيات إلى وجود حالة تصلب متنامي من جانب مولاي يوسف تجاه بن عبد الكريم. وقال إنه من المؤكد أن الخطابي قد التمس من مولاي يوسف في البداية أن يتدخل، وأن السلطان قد هم عدة مرات بأن يتدخل في اتجاه لا يرضي إسبانيا. وفي حالتين على الأقل كانت هناك ضغوط من قبل ليوطي في اتجاه قطع الطريق على أي تقارب محتمل بين الخطابي والسلطان. وفي وقت مبكر، حسب برقية استعلاماتية بتاريخ 14غشت 1921، بعد أيام من أنوال، كان هناك تحذير من أي دعم. وفي 1925 تمكن ليوطي من أن يثني السلطان عن مشروع توجيه رسالة ملكية تقرأ في المساجد لإدانة قساوة الوسائل الحربية التي يستعملها الإسبان، ثم فجأة وقع تشدد من جانب السلطان بخصوص الحركة الريفية بعد ذلك، إذ صرح لبيتان في تموز / يولبو 1925: “أنا لن أتعامل مع بن عبد الكريم، وأتوقع منكم أن تخلصوا المغرب من هذا المتمرد”. وقع ذلك في وقت اتضح فيه أن مولاي يوسف بات متيقنا من أن فرنسا عازمة على التدخل إلى جانب إسبانيا، بينما في وقت سابق حاول السلطان أن يتجاوب مع الخطابي الذي دعاه إلى استنكار إسبانيا.
وتبعا لمراجع ريفيت فإن ضغوط الإقامة العامة كانت تتم عبر كل من المقري، وبوشعيب الدكالي وبن غبريط. واستشهد ريفيت بمستندات استعلاماتية ورد فيها أن بن عبد الكريم ذكر في رسالة إلى أحمد بن الجيلالي في يونيو 1925 أن المقري “وصولي”، ووصف الدكالي بأنه “معدن كل الخبائث”. أما بن غيريط فإن ليوطي نفسه كان يعول عليه في تكييف السلطان وفق إرادة الإقامة، ويراه مؤهلاً لكي يحبط كل مسمى مشكوك فيه قد يحدث في دائرة المخزن.
وعلى هذا فإنه لم يكن منتظرا من البلاط أن يكون له موقف مستقل بخصوص المسألة الريفية، ومع ذلك فقد كان من الممكن في البداية أن يستنكر الموقف الإسباني كما تطلع على ذلك الأمير. وكانت سياسة الأمير ذاتها تقوم على مهادنة فرنسا.
ونشير قبل الانتقال إلى موقف الأمير من فرنسا إلى نادرة تفيد أن الخلفية الشرعية للموقف من السلطان كانت حاضرة في أذهان المجاهدين. وقد ذكر لي أحد رفاق الأمير بهذا الصدد أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، توجه إلى فقيه ليستفتيه في ما يلزم عليه من الوجهة الدينية أن يقوم به للتفكير عن تسببه أثناء الحرب في إزهاق أرواح مسلمين كانوا مشاركين في المعارك من الجانب الآخر، والحال أن تلك الحرب “لم يأمر بها الإمام” . ومن الواضح أن قوة الحس الديني عند هذا المجاهد هي الدافع لمثل هذا التساؤل. ولا شك في أن فكره بقي مرتاحاً حينما تلقى جواباً مفاده أن الثورة كانت جهاداً في سبيل الله، وإذا كان الإمام لم يأمر به، فلظروف سياسية كانت تقيده، والجهاد واجب على المسلمين لحماية دار الإسلام.