24ساعة ـ متابعة
على غرار كل ربوع الوطن وبحكم الموقع الجغرافي للمملكة, ظلت منطقة الريف بالشمال المغربي محط أطماع أجنبية وأمبريالية. لكن ساكنتها كانت لها بالمرصاد بفضل رجالاتها ومقاوميها من مثال محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاد ثورة لا نظير لها في العالم ضد الاستعمار الاسباني جسدت التلاحم بين المغاربة.
ولتسليط الضوء على هذه المقاومة الوطنية, تقدم جريدة “24 ساعة ” لقرائها بمناسبة شهر رمضان الأبرك فصولا من تلك المعارك الجهادية وتأثيراتها وهي مستقاة من من كتاب ” محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة الى الوطن” لمؤلفه الاعلامي ووزير الاتصال الراحل محمد العربي المساري والصادر سنة 2012 عن المركز الثقافي العربي, والذي يجيب عن ” بعض التشويش الفكري الذي يصاحب اليوم المسألة الريفية برمتها. وكما يقول فانه “في زمن الوسوسة بالنعرات يجب أن نستمع الى صوت الخطابي وهو يدعو الى الارتقاء بفكرنا السياسي من نطاق الجزء الى مستوى الكل. من الاقليمية الانعزالية الى أفق الوطن الذي يستوعب الجميع, والذي لا غنى فيه عن أحد” / ص:8/.
الحلقة الثامنة:
بن عبد الكريم الخطابي يحول القبائل الى شعب مقاتل
يجزم صارو أن بن عبد الكريم غادر مليلية في 25 يناير 1919. وفي يوليو من تلك السنة كان عضوا في لجنة الامتحان التي أجازت كلا من الكولونيل سيلفيستري الشهير، وكذلك كانديرو لوبيرة مدير “إيل طيليغراما”، والكابتن مياخا الذي أصبح في ما بعد قائدا عسكريا للدفاع عن منطقة مدريد أيام الجمهورية، وكذلك المستعرب كاستيبخوس. (انظر “العلم” 22 يناير 2008 مقالا للمؤلف عن بن عبد الكريم في مليلية).
إذن فإن بن عبد الكريم الذي جعلته الظروف يقتحم العمل السياسي وهو ريعان الشباب، في العقد الثالث من عمره، كان قد احتك مباشرة بحقائق الحياة السياسية في بيئته، ومارس القضاء والتعليم والصحافة. وتأهل بذلك لينظر إليه الوسط الذي ينتمي إليه بوصفه رجلا جديرا بالاقتداء. وحينما أقبل على العمل المسلح انطلاقا من قبيلته كان عليه أن يتدبر جيدا في الأوضاع السائدة ويختار الطريق التي قرر سلوكها وهو على بينه من أمره.
كان قد ألف الاحتكاك بالناس من كل الحيثيات. ومكنه ذلك من التعرف إلى نقاط الضعف والنوازع المادية للأفراد. وخبر من خلال تعامله مع رؤسائه الإسبان في مليلية، وزبنائهم المتعاونين من كبار وصغار، خبايا السياسة التي كانت إسبانيا تطبقها في المنطقة. وبوصفه صحافيا أشرف مدة على القسم العربي، أو على الأصح على الركن العربي من جريدة “طيليغراما ديل ريف”، أمكن له أن يطلع جيدا على ما يجري من حوله وفي العالم الرحب. واضطر بلا شك، كما يحدث للصحافيين عادة حين يتعاملون مع شؤون العالم، إلى أن يستعمل الكلمات في محلها، ولا يقول إلا ما هو ضروري، وبالشكل الملائم وفق الملابسات السياسية، ومقتضيات التواطؤ الذي يفرضه تحمل الحياة اليومية.
وكان الطابع العام للوضع في المنطقة التي قرر التحرك فيها هو التنافر بين القبائل والتفسخ الذي كان قد سرى إلى الدولة إلى درجة أن واحدا من أعوان الدولة يترك السلاح ويلتجئ إلى مليلية ويخدم دولة أجنبية . ولابد أن نستحضر هذا لكي نتصور الانقلاب المدهش الذي وقع في تلك الرقعة من المغرب في ظرف وجيز. وهذا من ثمار المزايا القيادية للخطابي الذي وقعت على يديه طفرة تمثلت في الانتقال من حالة الانحطاط المزري والتهافت على المصالح الفردية وغيبة الوعي بوجود الدولة المغربية المستقلة، إلى حالة عالية من التماسك والنزوع إلى الكمال الذي أصبح يسود القبائل التي كانت إلى حين متقاتلة في ما بينها، وينخرها دخول أعيانها في سلك إيبوليسين، بل إن حالة من السمو نشأت وحلت محل ذلك كله، وبقيت القبائل التي شملتها اليقظة صامدة طيلة خمس سنوات، بعد أن جعل منها بن عبد الكريم “شعبا مقاتلا” يجر المحراث بيد، ويحمل البندقية بيد أخرى.
بنى بن عبد الكريم دعوته على الإقناع. وكان في حاجة كبيرة إلى استعمال هذا السلاح، في مجتمع خربته “إيبوليسين” وفي جو الحذر التام المتبادل بين مختلف الفئات والحذر منه هو بدوره لمقاومة في مليلية ولشكوك حامت حول عائلته، ولكن في لحظة معينة تمثلت فيه الجماهبر الرجل الأكثر تأملا لقيادتها.
حدث ذلك منذ اجتماع “القامة” الذي وقع فيه الاختيار الحاسم. كان الغرض من الاجتماع الذي انعقد في أرض القبيلة المجاورة تمسمان عسكريا بحتا. إذ لم يكن في جدول الأعمال إلا دراسة كيفية تسيير القوات المحشودة في المعارك التي كان القوم مقبلين على خوضها مع الإسبان. ولكن المجتمعين رأوا أن خوض تلك المعارك يقتضي تعيين قائد لها. وتقول بعض المصادر الريفية أن هذا الاجتماع انعقد قبل وقعة ظهر أوبران بعشرين يوما. وفي مصادر أوروبية إن الوقعة المذكورة جرت في فاتح يونيو 1921 .
وذكر صاحب “أسد الريف” محمد القاضي أن اجتماع “القامة” كان في أكتوبر 1920 . وحسب وولمان في كتابه “عبد الكريم وحرب الريف” فإن اجتماع “البيعة”، وقد كان عقب ذلك بطبيعة الحال، وقع في 1920-2-1 .
والواقع أن الأذهان كلها اتجهت نحوه منذ البدء وفي كل الأطوار، ليكون هو الرئيس العسكري، إذ تأكدت بعد “أنوال” بشكل حاسم المواهب القيادية للرجل، فاستقر الرأي نهائيا في اجتماعات متوالية أعقبت بدء المعارك، على أن الرئاسة العسكرية والسياسية هي للقاضي بن القاضي المدبر الحكيم للحرب والسلم.
وتداولوا في اللقب الذي يكون لرئيسهم، هل هو “قائد” أو “سلطان”، حسبما أوحي به القاموس المتداول في الساحة، فاستقر الرأي بعد ثلاثة أيام من النقاش مع المعني بالأمر على لقب “الأمير” بمعنى قائد جهادي. وما حرص عليه الأمير هو ألا تكون له تشريفات خاصة به. وإذا كان الناس ينادونه بمحضره، وكذلك في غيبته، بمولاي محمد أو مولاي محند، فلأن النماذج المتداولة التي كانت في أذهانهم كانت محدودة ولا يتصورون رئيسا إلا ويسبق اسمه مولاي، خاصة وأن “الأمير” رجل من بيت علم ورياسة وهو قرشي. وقد ذكر ذلك بنقسه لماتيو.
اعتنى بتوجيه أنصاره دائما إلى فكرة التحرير، وليس فقط المقاومة من أجل أن يرحل العدو. وليس فقط أن تدافع القبيلة عن أرضها هي، بل أن تجتمع كلمة القبائل كلها للدفاع عما هو مشترك. ووجد نفسه يحث أنصاره على ذلك من مبتكرات الحركة التي قادها. وهذه النقلة كانت نوعية حقا. فقبل ذلك اتسمت معارك المقاومة بطابع قبلي. وكانت كل قبيلة تفكر في نفسها. وقبل ستين سنة من ذلك الوقت كان هناك تفكير مريض سجله الناصري في “الاستقصا” بصدد حرب تطوان 1860 من قبيل القول “أهل تطاوين يدافعون عن تطاونهم، وأما أنا فحتى يصل إلى خيمتي في عبدة” (الناصري، ج 9 ، ص 88 )
لقد كان التفكير السياسي متدهورا قبل بن عبد الكريم . والنماذج التي كانت في أذهان الناس منحطة. واحتكاكهم مع المخزن كان مطبوعا بالحذر وأحيانا غير قليلة بالقطيعة. ولعل المفتاح الذي يؤدي بنا إلى فهم النقلة النوعية المشار إليها هو أن الأسرة الخطابية، اشتغل أقطابها لمدة ثلاثة أجيال على الأقل بالقضاء. وهي مهنة تميل بصاحبها إلى أن يكون مرتبطا بالمؤسسات القائمة. فقد ناوئت تمرد بوحمارة، ورغم أنها وجدت في موقف المخزن كثيرا من السلبيات، كما كان الحال في حملة بن البغدادي على بقيوة، فإنه رغم أن الصورة كانت قائمة جدا فقد كان الدافع قويا للعمل من أجل ضمان الاستمرار في نطاق العدل.