سنة بعد أخرى، تخرج علينا وزارة الخارجية الأمريكية بتقريرها حول أوضاع حقوق الانسان في العالم وتتوهم أنها ستبدو كمعلم يبين للدول/ التلاميذ مواطن قصورهم وجهلهم. غير أن أقرب ما في هذه التقارير التي تنتصب كفزاعة طير أنها لا تتحدث ، ولو همسا ، عن حقوق الانسان في أمريكا كما لو أن الولايات المتحدة لم تعد من هذا الكوكب الأرضي المزدحم بمنتهكي حقوق الانسان وما يتعلق بها من قيم انسانية وكونية عليا.
ولأن أمريكا تظل حتى اشعار آخر دولة من هذا العالم الذي تتعالى عليه تقارير وزارة الخارجية ، لن نذهب أبعد من ويكيبيديا لكشف بعض المستور. ففي عدة أسطر، أوجزت الموسوعة العالمية أن انتهاكات حقوق الإنسان داخل أمريكا تطال مجالات عديدة تتعلق بحرية التعبير وسجن الدائنين وإخضاع المواطنين للمراقبة الأمنية وسوء معاملة السجناء والقاصرين والمهاجرين وتعذيب معتقلي غوانتانامو وتجريم البقاء في حالة تشرد دون سكن قار وزيادة الفوارق الطبقية بتخفيض الضرائب على الأغنياء والمقتدرين. واذا كان كل ما سبق لا يكفي لكشف الوجه البشع لانتهاكات حقوق الإنسان في أمريكا، سنغالب الحياء الذي يتملكنا للإشارة إلى “مصفوفة الحسم” التي هندست وأجيزت في عهد أوباما للسماح لأجهزة الاستخبارات الأمريكية بخطف واعتقال وتعذيب وقتل أي عدو خارجي للولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أبرز تجليات هذه المنظومة ما نشاهده من عمليات اختطاف لمواطني دول أخرى اذا لم تتم الاستعانة بطائرات مسيرة لقصفهم داخل بلادهم في انتهاك صارخ لسيادة الدول المغلوبة على أمرها.
واذا كانت هيومان رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الحقوقية الأمريكية لا ترى فائدة في كشف كل هذه الانتهاكات، فان سجلات الأمم المتحدة تظل كفيلة بنشر هذا الغسيل القذر.فمنذ تنصيب إدارة ترامب ، أوقفت الحكومة الفيدرالية تعاملها مع محققي الأمم المتحدة وشبكة الخبراء المستقلين المختصين ببحث أوضاع حقوق الانسان ارتباطا بالهجرة والفقر وحرية التعبير والعدالة. فبعد تجاهل وزارة الخارجية لثلاثة عشر طلبا قدمها خبراء الأمم المتحدة منذ 7 مايو الماضي لبحث الجوانب المتعلقة بحقوق الانسان، قال جميل داكوار ، مدير الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ، أن أمريكا لم تعد معنية بالوفاء بالتزاماتها تجاه حقوق الانسان مما يبعث رسالة الى الدول الأخرى مفادها: اذا لم تتعاونوا مع محققي الأمم المتحدة فسيذهبون في حالهم ويتركوا الجمل بما حمل ومرحى للمنتهكين.
هذا السلوك القائم على ادارة الظهر لمحققي الأمم المتحدة ورفض المساءلة يجد سنده في القرار الذي اتخذه ترمب في يوليو الماضي بسحب عضوية أمريكا من مجلس حقوق الانسان وانحيازه الفاضح لمحمد بن سلمان رغم توفر الأدلة التي تربطه بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. كما أن موقف ترمب من طالبي اللجوء ورفعه مؤشرات التفاوت الطبقي والاجتماعي في بلد يضم 40 مليون فقير كان اشارة لفسح الطريق أمام مختلف أشكال انتهاكات حقوق الانسان. وكان فيليب آلستون ، المحقق الأممي ، قد نشر في ذات التوقيت تقريره حول انعاكاسات حالة الفقر في أمريكا على أوضاع حقوق الانسان. غير أن نيكي هالي ، سفيرة أمريكا بالأمم المتحدة سابقا حينها اتهمت التقرير بالتحيز وأكدت أن الادارة مصرة على ادارة ظهرها للمساءلة الدولية. وقد بدا حينها أن مزاج السيدة نيكي كان في أسوأ أحواله عندما قالت أنه من المضحك أن تركز الأمم المتحدة على الوضع الداخلي لحقوق الانسان في أمريكا بينما كان يتوجب عليها أن تنظر في أحوال دول كبوروندي. وردا على هذا النوع من الاستعلاء المقيت، قال آلستون أن عدم التعامل مع الأمم المتحدة يعتبر سابقة مؤسفة لأن أمريكا حاولت دائما اخضاع الدول الأخرى للمحاسبة وهي سابقة ترسل اشارة مفادها أنه يمكن لأي دولة أن تتهرب من المساءلة اذا لم يعجبها تقييم سجلها في حقوق الانسان.
أما فيليبي غونزاليس موراليا، المحقق الأممي الخاص بحقوق المهاجرين فلا يزال ينتظر ردا من وزارة الخارجية الأمريكية على طلبين قدمهما في مارس ويوليو 201_ لتفقد أحوال المهاجرين.
والواضح أن ما لا يفهمه محققو وخبراء الأمم المتحدة أن وزارة الخارجية الأمريكية لا تملك وقتا للرد على طلباتهم لأنها مشغولة بالقاء دروسها حول احترام حقوق الانسان أمام الدول/التلاميذ في عالم لا يعرف غير انتهاك الحقوق وازدراء القيم الانسانية.