(الحلقة العاشرة : خالد الذكر)
كأنك بالفقرِ تبغي الغنى ** وبالموتِ في الحرب تبغي الخلودا
أبو الطيب المتنبي
صعدت الروح الطاهرة للمعلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل إلى الفردوس الأعلى في الثالث عشر من يناير 2021، ليخلد ذكره في سماء المجد؛ لحظة عصية على النسيان.
تسرب الخبر إلى محافظات العاصمة وأسواقها وبين رواد المصالح الإدارية والفضوليين من المارة، قبل اكتساح شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء الدولية، محتلا العنوان البارز للأخبار المحلية والدولية عن موريتانيا، كسابقة في التعاطي مع رحيل الأعلام من بين الشخصيات الوطنية، رغم الطابع الهادئ لتوقف حياة المعلم على سرير المرض، ليحيل المقام الخاص للراحل الخبر حدثا وطنيا توقفت الحياة لتلقفه وكأن البلد والعالم المهتم من حوله يرقب حادثة كونية مفاجئة مجهولة العواقب والمآلات.
قبل الدموع والحسرة، قالت عرافة يتنفس بيتها الضيق المكتظ تعاويذ التمائم تحت سحابة من رائحة البخور ودخان الكآبة، إن المعلم وصقر البعث، تنتظره انتصارات الخلود، و امتلاك ذكر يزاحم ليمكث في سماء الفكر ويملأ حيز غياب عقول الأطراف في طبق المعرفة المتاح للأمة وأجيالها الناهضة من مُراد بعيد؛ قطعت ضحكتها بصيحة إغراء صامت واستلقت على سرير حمله الخشب الأحمر الجميل، عاليا فوق بلاط من سجاد القرن الإفريقي، الوثني الملامح والملمس؛ حيث تناثر الحرير بمتعة ألوان الطيف ورفاه الكتان؛ كان رسم شفط سبق عقدها الثامن يروي قصة رحلة وجهها في قوافل الجمال، مفصحا عن تراث عتيق من فولاذ الثقة وأريج القذع المرح لرواد حياة استوفتها بذخ ليل تسكنه بقلق الانتظار؛
مابين ذهاب ومجيء فراستها المنتقاة لجشع الروح المشبعة، لفظت ماتبقى من حسرتها : عجز اكتمال الكفاية؛ واستلمها عصف الصحراء نحو جغرافية تليق؛
حيت الصحافة العربية في عواصم أقطارها المفكر العروبي والسياسي التقدمي. تصدر خبر وفاة ولد ابريد الليل عناوين صحف لندن والقاهرة ودمشق والكويت وعمان وبيروت تونس الخليج العربي وشمال إفريقيا والساحل والصحراء وبعض العواصم العالمية، حيث خصصت العديد من وسائل الإعلام صفحات كاملة لحياته ومساره مرفوقة بصوره.
ذرف الإعلام العمومي العربي دموع الوداع بحرقة وألم في مرافقة غير مألوفة لرحيل آخر المؤمنين بسيادة كرامة العرب على جغرافية التقسيم والهيمنة، حيث احتل حيزا معتبرا في نشرات الإذاعة الجزائرية الحكومية، بتوثيق لأدواره الفكرية والنضالية “في معركة التحرر من الاستعمار ودعم القضايا العادلة”، واعتبرته “أحد رواد التنوير الفكري الذين أناروا المشهد الثقافي و الإعلامي بعد الاستقلال”؛
تحركت الأيام بنغم الترقيم وأنفاس المنجنيق تحت عجلات قرن توهمه طموح فلاح آفطوط عبورا آمنا فوق ” نهاية التاريخ”، ليستعيد رجع التيه من صقيع ” روسيا اليوم “، ترفع على مسامع العالم رحيل ” القائد التاريخي”، مؤكدة في عنوان مجرد من الغواية مشحون بمجد الخلود : ” وفاة ولد ابريد الليل.. القائد التاريخي”. واصلت موسكو مواساة أحرار العالم بعد سبق صوت برلين مرددا هاتف الحزن من مستشفى صدام، ناعيا للعالم بلغاته ” منظر السياسة وشؤون الحكم القيادي البارز “.
بادرت أنقرة اللحاق بالركب بنبرة آنية “الأناضول”، مبرقة ” وفاة الزعيم التاريخي “، ليتواصل جردها تبر محطات الحياة الفكرية والسياسية وحتى الأدبية للمعلم ولد ابريد الليل.
عبر ” القدس العربي” فوق عزلة خطه الجديد، للتعاطي بتقنية قومية غابرة مع فاجعة رحيل ” الأب الروحي “، بتبجيل خرافي استل من عقيدة النكاية طرافة : “يفكر باللغة العربية ويكتب باللغة الفرنسية”، لتنسجم بصعوبة مع إكراهات التحرير ومساحة حزن المشهد الإعلامي العالمي.
تخلفت مهنية المحترمة “فرانس برس” عن آنية التعاطي الإخباري مع غياب أهم أصوات الصحراء الكبرى المناهضة للاستعممار، وتجاهل مكتبها الجهوي كذلك نعي المثقفين الفرانكوفونيين ” المفكر الاستراتيجي الكبير القائد الميداني الأصيل؛ حامل لواء المجد والكبرياء والإباء وعلو الهمة”، رغم تكريس حصرية برقيات الوكالة العالمية لإعلان وفاة وزراء سابقين منقطعين عن المشهد منذ عقود وأقل حضورا في قلوب الناس وسماء الإبداع والمتابعة النشطة للحياة العامة؛ لتواصل بعض دوائر الرجعية الممجدة للاستعمار، التشفي بأساليب تليق بأفقها المغلق وفهمها السقيم.
احتفظ المعلم لنفسه بزهد أنيق في هيولا الحياة، واكتفى بجوهر جلب هيبة الاهتمام وقوة التأثير، فنعت فاجعة الأمة بغيابه، الأقطار وقادتها، الأحزاب ونخبها، العرب في كل مكان، خصوم السياسة وأعداء الهوية، وسائل الإعلام ومراكز البحث والحرم الأكادمي؛ بعد فيض حسرة وحزن الصحراء الكبرى التي فقدت معلما قد لا تكفي قرون إضافية من بزوغ الضياع لتعويضه.