سعيد الكحل
شرع السيد سعد الدين العثماني في نشر سلسلة مقالات بموقع الحزب؛ إذ نشر المقالة الأولى بتاريخ 19 غشت 2023، تحت عنوان “في الطابع الحضاري لمعركة الأسرة”، بغرض الدفاع عن موقف حزبه وعموم تيار الإسلام السياسي من مطالب تعديل مدونة الأسرة وإقرار مزيد من الحقوق للنساء، سواء كنّ زوجات أو بنات. وتأتي مقالات السيد العثماني في خضم المطالب النسائية بضرورة مراجعة منظومة الإرث وإثبات النسب للأطفال المولودين خارج إطار الزواج. وبعد أن أدرك التيار الإسلامي ضُعف موقفه المناهض للمطالب النسائية وعجز دفوعاته عن تبرير الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه النساء بسبب منظومة الإرث التي تجيز أكل أموالهن بالباطل، لجأ منظرو هذا التيار إلى إسقاط آراء بعض المفكرين الغربيين على واقع المجتمع المغربي عموما والأسرة المغربية على وجه الخصوص حتى يبين أن المعركة “حضارية” وليست حقوقية واجتماعية. هكذا استهل السيد العثماني مقالاته بالجملة التالية ” كثيرون يظنون أن التحولات في مكانة الأسرة وموقعها ووظائفها في المجتمعات الغربية تحولات عفوية طبيعية، بل يظن البعض أنها بريئة ولا تشكل مخاطر كبيرة مهددة للإنسانية. والواقع ان كثيرا من المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسيين الغربيين نبهوا مبكرا إلى خطورة هذه التحولات وإلى جذورها الفلسفية، باعتبار ما تشهده الأسرة نتاج توجهات فلسفية ونظرية تسير عمدا وبسبق إصرار للقضاء على الأسرة”. لم يستحضر السيد العثماني المسؤولية السياسية التي تحملها كرئيس للحكومة، والتي تفرض عليه أن يجعل مصلحة المجتمع والأسرة وكل النساء فوق مصلحة الحزب الذي، منذ نشأته الثانية وهو يناهض المطالب النسائية في المساواة والعدل ورفع الظلم باسم الدين والأعراف الاجتماعية التي تجاوزها المجتمع. إذ منذ عريضة المليون توقيع لتعديل مدونة الأحوال الشخصية التي أطلقها اتحاد العمل النسائي سنة 1992، وإسلاميو المغرب يتهمون خصومهم بالتآمر على الأسرة والسعي إلى تفكيكها. ورغم كون المدونة خضعت لتعديلين: الأول سنة 1993 وكان تعديلا بسيطا لكن أهميته تجلت في رفع القداسة عن المدونة؛ الثاني كان جوهريا سنة 2004، ظلت الأسرة المغربية متماسكة وتؤدي وظائفها التي وجدت من أجلها، إلا أن الإسلاميين يصرون على تلويك نفس مبررات المناهَضَة وينسجون نفس تُهم التآمر على الأسرة خدمة للأجندات الغربية.
إن الواقع الاجتماعي المغربي بات يفرز مظاهر مأساوية تكون النساء ضحيتها الأولى بسبب ما تكرسه منظومة الإرث من ظلم وجور في حقهن. ذلك أن التغيرات التي يشهدها المجتمع المغربي على مستوى بنياته الاجتماعية وأدوار أفراده، ذكورا وإناثا، التي باتت تفرضها الظروف الاقتصادية وتطلعات الفئات الشابة إلى تحسين مستواها المعيشي بما يحقق لها قدرا من الرفاهية المادية، لم يعد معها عامل الإرث المورد المادي الرئيسي للأسر الحديثة. هذه التحولات المجتمعية جعلت مراكمة ثروة الأسرة تتم بفعل المجهود المادي الذي يبذله كل أفرادها، ولم تعد مقتصرة على ما توارثته الأسر النووية الذي، في الغالب، لا يغني ولا يسمن من جوع. فإذا كانت منظومة الإرث تقوم على مفهوم العائلة الكبيرة التي تتوارث فيما بينها ما ساهمت في مراكمته جيلا بعد جيل، وتتكفل بالإناث وذوي الاحتياجات الخاصة، فإن الأسر الحديثة باتت أُسَرا نووية مستقلة في معيشها ومواردها المالية؛ أي باتت تعيش بكدّ أفرادها وسعيهم ذكورا وإناثا. بل في حالات عديدة باتت الإناث المعيل الوحيد لكل أفراد الأسرة بمن فيهم الذكور (1.7 مليون أسرة تعيلها النساء في المغرب، أي 17 % من مجموع الأسر).
إن التحولات التي عرفها المجتمع المغربي تفرض مراجعة منظومة الإرث التي باتت تشرعن الظلم وتخالف مقصد العدل الذي جاءت الشريعة من أجل تحقيقه. فالأمر لا يتعلق بصراع حضاري أو سعي الهيئات النسائية إلى فرض النموذج الغربي للأسرة، بقدر ما هو اجتماعي واقتصادي، بحيث تتوخى المطالبُ المقدّمَة رفع الظلم عن النساء الذي بات يلحقهم بسبب قصور منظومة الإرث عن استيعاب حركية المجتمع وتطور أدوار النساء الإنتاجية ومساهمتهن في اقتصاد الأسرة. ذلك أن المجتمع المغربي المعاصر يشهد تحديثا متسارعا لبنياته الاجتماعية والأسرية، بحيث اختفت من أعرافه قاعدة “الغُرْم بالغُنْم” التي تعني (ما يلزم المرء من مال لقاء ما يحصل له من منافع من ذلك الشيء، وأن من يحصل على الغُنْم لا بدَّ في مقابل ذلك أن يتحمل الغُرْم إذا وقع)، التي تأسست عليها منظومة الإرث مع نزول الوحي كما هو واضح في قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ) البقرة:233. فهذه الآية تلزم قرابة المولود الذي يرثونه، أي يتحصلون على غُنمه بعد وفاته، بالإنفاق عليه إذا عَدِم أبوه؛ إذ أن الغُنم (المنافع) بالغُرم(الإنفاق). ويتعلق الأمر بعصبة الصبي من الرجال مثل: الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم وهو قول عمر بن الخطاب وبه قال إبراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وهو مذهب سفيان، قالوا: إذا لم يكن للصبي ما ينفق عليه أُجبِرت عصبتُه الذين يرثونه على أن يسترضعوه. وقيل: هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء: وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق. وقالوا: يُجبَر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه عصبة كانوا أو غيرهم. فقد قال الإمام ابن العربي: “فمن الناس من ردّه إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلفة قتادة والحسن، ويستند إلى عمر، فأوجبوا على قرابة المولود الذين يرثونه نفقته إذا عدِم أبوه”.
إلا أن مدونة الأسرة، وقبلها مدونة الأحوال الشخصية، لا تلزم العصبة بالإنفاق على الأخ(ت) أو أبنائه(ا) في حالة العجز أو الوفاة، لكنها تسمح لهم بالغُنم مما تركا إن لم يكن لهما ولد ذكر. فالأسرة المغربية، في معظمها، باتت تعتمد في مراكمة ثروتها على مجهود أفرادها وعبر القروض لامتلاك السكن؛ ومن تم ترفض أن يقاسم الغرباء عنها ما راكمته من ممتلكات مهما كانت بسيطة، مع بناتها عند وفاة الوالدين. إنها وضعية ذات أبعاد اجتماعية وحقوقية صرفة وليست أبعادا فلسفية كما يزعم السيد العثماني بـ “أن أزمة الأسرة ليست بسيطة أو عابرة، بل
تؤشر على تحولات عميقة، تشمل تغيرات جوهرية في القيم العائلية وفي بنية الأسرة. كما أن تلك الأزمة ليست إلا انعكاسا للأبعاد الفلسفية السائدة لدى التوجهات السائدة في الغرب اليوم”. إن ما يتجاهله السيد العثماني وعموم مناهضي تعديل مدونة الأسرة هو أن المطالب التي ترفعها الهيئات النسائية والحقوقية يسندها القرآن والسنة النبوية ــ المصدران الرئيسيان في وضع بنود المدونة ــ خاصة ما يتعلق بالوصية وبإلغاء التعصيب وبحق الأنثى، منفردة أو متعددة، في الاستئثار بكل التركة إن لم يكن معها أخ ذكر، وفق ما تبينه الأمثلة التالية:
ــ قصة سعد ابن أبي وقاص حيث رُوِي أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: “إني قد بلغ مني الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلاّ ابنة لي، أ فأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر (أي النصف) قال:” لا” قلت:”بالثلث،” قال: “الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس.”
ـ حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ.
ـ حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به”.
إن المراد من هذه الأحاديث النبوية الشريفة هو بيان تشريع الرسول (ص) لقاعدة “الردّ على ذوي الفروض مقدم على إرث ذوي الأرحام”؛ أي في حالة وجود بنت أو أكثر دون الإخوة الذكور، فإن التركة كلها تؤول إلى البنت/البنات وفق “قاعدة الرَدّ” التي شرعها الرسول (ص)، والتي تُحْرِم العصبة من الميراث. وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول “بالرّدّ”، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقال ابن سراقة: «وعليه العمل اليوم في الأمصار». واختاره الزيدية والشيعة الإمامية. ويرى الحنابلة أنه يُردّ على كل أصحاب الفرائض على قدر ميراثهم إلاّ الزوج والزوجة.
واضح إذن، أن ما يدفع النساء إلى المطالبة بتعديل مدونة الأسرة هو الظلم الذي يلحقهن بسبب التفسير الذكوري للنصوص الدينية، بينما توجد تفسيرات واجتهادات فقهية متنورة من شأنها أن ترفع هذا الظلم إذا تبلورت في نصوص قانونية. فنساء المغرب غير معنيات بنظريات المفكرين الغربيين ولا بمفهومهم للأسرة، بقدر ما هن يناضلن من أجل تحقيق العدل وحماية حقوقهن من الاغتصاب باسم الدين.