أيوب المزين *
خمس سنوات مرّت على رحيل أحمد البوعناني (1938-2011) أحد الأوجه الفنية المغاربية الأكثر إثارة للاهتمام البحثي والنقدي في الآونة الأخيرة. لم يتوقف البوعناني، الحكواتي والشّاعر والسينمائي والرسام، الرّجل القلق والشّجن، طيلة حياته وحتى بعد مماته، عن تشييد أقاليم من المتعة والدهشة، رغم الكآبة التي قد تكون العلامة البارزة لأعماله ومسيرته، عند من عاصروه أو تعرفوا عليه لاحقا، من خلال كتاباته وعبر الإنتاجات السينمائية التي أنجزها كمخرج أو ساهم فيها كسيناريست وموضّب مونتاج.
نحافته وأناقته وسورياليته المربكة، الموزعة بين التصوير والرسم والشّعر، كلها ملامح تذكّرنا بالفنان الفرنسي جون كوكتو صاحب رائعتي “دمُ شاعرٍ” (1930) و”وصيّة أورفيوس” (1960). كوكتو غزير الإنتاج، كثير الظهور، أمّا البوعناني فشحيح البروز، غارق في العزلة والفقدان، صوته بعيد لكنه مسموع وهو يردّد علينا جملة بورخيس: “أكتب من أجلي، من أجل أصدقائي، ولكي أخفّف من حدة مرور الوقت”. كتابة بالأبجدية والصّور، وصداقات صارمة، هي وحدها التي تجعل من هذا الفنان اليوم كائنا يتمنّع عن النّسيان ويصمد في وجه حرائق الأرشيف.
المدينة المهجورة
الدار البيضاء مدينة ذات معالم كولونيالية، كان اسمها “أنفا”، وبها اجتمع روزفلت وتشرشل بالسلطان العلوي محمد الخامس للحديث عن تداعيات الحرب وإدارتها في شمال إفريقيا، فيها أيضاً صوّر مايكل كورتيز فيلمه الشّهير “كزابلانكا” (1942). ولد البوعناني بين الحربين في كازا. الهندسة المعمارية والسينما الأميركية وهوس الناس بالحداثة والموضة، أمور كانت توحي بمدينة منقطعة عن المغرب العميق، فضاء حضري مشغول بتطلعات التحديث ومضبوط بأدوات الاستعمار. عن الدار البيضاء سيُخرج البوعناني فيلمه القصير “كازابلانكا 6/12” (1968) عرض فيه، بشعرية حزينة وصامتة، تتخلّلها موسيقى الجاز، نظرته إلى المعمار والناس وإيقاع الحياة هناك، من السّادسة صباحاً وحتّى الظّهيرة. بين عامي 1961 و1963، غادر البوعناني المغرب إلى باريس من أجل دراسة السيناريو والمونتاج في معهد الدراسات العليا للسينماتوغرافية، ولم يكن يخفي إعجابه بويلز وسبيلبرغ وبازوليني، وببورخيس كأديب تشارك معه تعقّب السّراب وقرأ رفقته الذاكرة في “كتاب الرّمل”.
طاقة شعرية وحكائية نقلته، بعد رجوعه من فرنسا، إلى قلب الصّحراء لتصوير “طرفاية أو مسيرة شاعر” (1966) و”المنابع الأربعة” (1977)، وأرجعته إلى الاشتغال على التراث، الشفهي منه على الخصوص، كما أراد لكاميرته 16 ميلليمتراً أن توثقه لا كما أحبّ المجتمع “الأميّ” تقديسه، ولا كما حاول الاستعمار أن يراه ويوظفه عبر مؤسساته الرسمية، سواء في البروباغندا الإعلامية أو الدراسات الإستشراقية. هكذا انشغل البوعناني بالثقافة الشعبية، فعلاوة على فيلمه القصير “سيدي أحمد أو موسى” (1972)، الذي يقصّ حكاية الزجال والمقاوم سيدي عبد الرحمن المجذوب، رصّع البوعناني محكيّا عالميا، يمزج التخييل الذاتي بالوقائع الحياتية لشخصيات مريضة، وينهل من قصص الطفولة المطبوعة بصراع الجسد والدين وخرافات الأسطورة. يكتب في مطلع رواية “المستشفى” (دار الكتاب، ترجمة محمد الخضيري): “حين ولجت البوابة الحديدية الكبرى للمستشفى، كنت على الأرجح لا أزال حيا. على الأقل هذا ما اعتقدته، لأنني أحسست على جلدي روائح مدينة لن أراها البتة (…) أنا فاقد ذاكرة كبير، أعترف بهذا. ذاكرتي تشبه خرابا تُقلِّمه الانجرافات يوما تلو يوم”.
حريق في البيت
كان البوعناني قد آثر العزلة في بيته القروي، ببلدة آيت أومغار/دمنات (ضواحي مرّاكش)، عندما بلغه خبر اشتعال النّار داخل شقّته في العاصمة الرّباط. على السّاعة الثالثة صباحا، من يوم 23 تموّز 2006، أتى حريق مهول على جزء كبير من أرشيف الفنان: ملفّات أسطوانية ومخطوطات وكتب وجهاز تلفاز “توشيبا” 19 بوصة. لم يبق إلاّ الرماد، وأوراق ممسوحة المداد، بلّلتها خراطيم رجال الإطفاء. جهنّم الأرشيف. مصيبة أخرى، إلى جانب وفاة ابنته الباتول، أبعدت البوعناني تماماً عن الأنظار وأوقعته في وحدة عارمة وسخط على أوضاع اجتماعية وفنية متردية. اليوم، داخل الشقة، علب سجائر أحمد المفضّلة وأعواد ثقابه، وعلبة كارتونية وأخرى خشبية، مزخرفة ومنقوشة، تعلوها رسومات إيروتيكية، تضمّ ما يكن أن يكون دُررا ثمينة لم يصبها اللّهيب بأضرار جسيمة.
في اليوم الذي دفن فيه البوعناني، حلّقت روحه عاليا مثل ذلك البراق الأسطوري الذي كان يحلم به ويرسمه، حلّق كأن أحدا لن يراه ولن يتذكره. لكن سرعان ما تحلّقت حول ذخرانه، منذ رحيله العام 2011، مجموعة من الفاعلين الثقافيين والفنانين، من بينهم عمر برّادة (مدير مكتبة دار المأمون) وعلي الصّافي (مخرج مغربي)، وكذلك ابنته تودة التي تشتغل على لملمة بقايا البيت المحروق لتصليحها وتحقيقها وإعدادها للنّشر. وبذلك تمّ عرض أفلامه بين نيويورك (MaMo) ولندن (متحف Τate Modern) وباريس (قصر طوكيو) وطنجة (الخزانة السينمائية). عن الاحتفاء الأخير الذي خصّصته تظاهرة “مغرب الأفلام” بباريس لأحمد البوعناني، في ذكرى وفاته، تقول ابنته تودة لـ”المدن”: “تمكننا هذه البرمجة من وضع مشوار أحمد البوعناني بين أولئك الذين تأثّر بهم، مثل محمد عفيفي “لحم وفولاذ” (1959) و”عودة إلى أغادير” (1967)، وأولئك الذين احتفى بهم هو مثل محمد عصفور، وأيضا أولئك الذين أثّر فيهم مثل داود أولاد السيد في فيلمه “ذاكرة مُغرة” و”مطلوب” لعلي الصافي”.
أربعة أفلام قصيرة وفيلم مطوّل وحيد، وثلاث مجموعات شعرية ورواية “المستشفى” الصادرة بالفرنسية لأوّل مرة عام 1990، ومقالات منشورة في المجلة الطليعية “أنفاس” بين 1966 و1967، بالإضافة إلى وثائقيات ومساهمات مختلفة مع مخرجين مثل أحمد بناني، ودراسة حول السينما في المغرب تحت عنوان “تاريخ للسينما المغربية من الاستعمار إلى الثمانينات” ورواية “سارق الذاكرة” التي لم تصدرا بعد، وربما تحف إبداعية أخرى، قد تخرج مثل عجيبة من عجائب بسيوا المطمورة في الحقيبة؛ هذا ما خلّفه البوعناني زيادة على قوة الحرف وحدّة التعبير ومرارة العيش وتعب الطفل البعيد الذي نسمعه يقول، من داخل جناح أمراض السّل، على لسان السّارد: “أما الآن فسوف أنام. لأنني تخيّلت قاتلا يُشهر فأسه. ما يخيف طفلا فقط، طفلا مريضا يجلس إلى جانب نار التدفئة. بما أنني لم أعد الطّفل، ولن أستطيع أبدا أن أكونه، أقرّر التوقف عن الكتابة. أصلا لم يعد لدي شيء لأقوله”.
مقتطفات من شعر أحمد البوعناني 1967:
“إن شئتَ… أقول لنفسي كلّ يوم
إن شئت رؤية الكلاب السّوداء لطفولتك مجّددا
اجعل لنفسك سببا
ارم شَعرك في نهر الأكاذيب
اغطس أكثر عمقا اغطس
ما همّك في الأقنعة ولكن
اجعل لنفسك سببا ومت إذا اقتضى الأمر
مت إذا اقتضى الأمر
مع الكلاب السّوداء التي تتقاتل في مستودعات قمامة
الضّواحي بين الرؤوس الصّلعاء أطفال مدن الصّفيح
أكّالوا الجراد والأقمار السّاخنة.”
“كان فيكتور هوجو يشرب في جمجمة
في صحّة المتاريس
أمّا ماياكوفسكي
فكان يطرح الغيوم في المدن الإذاعية
(كان لزاما إيجاد ناي فقّارت الظهر داخل مقابر المستقبل)
عليّ اليوم
أن أطرح أناشيد الحبّ
فراشات تدخّن غليون الأبنوس
للأزهار جلد الذئاب
العصافير البريئة تسكر بالبيرة – وهناك من بينها
من يخفي مسدّسا أو سكّينا حتّى”
* عن “المدن” الإلكترونية