عبد الكريم ساورة
صدق أو لا تصدق، يمكنك أن تموت في أي لحظة بمدينة قلعة السراغنة، وهذا ليس خبرا مفزعا من أجل إخافة الوافدين على المدينة وإنما حقيقة يعيشها كل فرد من يتجول بالمدينة ومراكزها القروية المحيطة بها.
في التسعينات قمنا بربورطاج حول : مجانين قلعة السراغنة ” بجريدة محلية تدعى ” الأمل ” وكانت في تلك الفترة تعج المدينة بالمختلين عقليا نظرا لقربها من بويا عمر، فغضب عامل الإقليم أنداك السيد الحضرمي غضبا شديدا ، وفي إحدى لقاءات المجلس الإقليمي قال لي بالحرف : أنا أقوم باتصالات على كل الأصعدة بما فيها حوارات مع جرائد ومجلات دولية ” كجون أفريك ” لإعطاء صورة مشرفة ومشرقة عن مدينتكم من أجل استقطاب المستثمرين وأنت تقوم بهدم وردم كل شيء، وذلك بإدخال الرعب والفزع على السياح والمستثمرين بتلك الصور المخيفة عن هؤلاء المختلين وما يقومون به من أعمال في مهاجمة المارة. وأضاف السيد العامل قائلا : أنت أستاذ لا تعرف جيدا خطورة هذا الروبورطاج ، بالله عليك كيف سيلتحق المستثمر بمدينتكم وهو يشعر بالخوف وغير مطمأن على أولاده من أن يتعرضوا لهجوم أو مكروه محتمل من طرف هؤلاء المجانين ؟ فأجبته في الفور : حماية المستثمرين والمواطنين ليس من مهامي، هذا من صميم عملكم لأنكم تتوفرون على كل وسائل الأمن، أما مهمتي أنا فهو تسليط الضوء على البقع السوداء بالمدينة وأنتم من يجب مواجهتها، وظاهرة تسكع المجانين بالمدينة واحدة من هذه النقط السوداء الكثيرة بالمدينة.
اليوم بعد عشرين سنة عن هذا الحدث، عرفت المدينة توسعا عمرانيا كبيرا بفضل عرق وغربة المهاجرين،( بناء المنازل والمقاهي) وقليل من الموظفين ولم يدخل المدينة أي مستثمر ليس بسبب الروبورطاج و المختلين عقليا وإنما لأسباب عدة، لايسمح المجال هنا للحديث عنها، ولكن من أهما أن المدينة لا تتوفر عن نخبة ” انتلجانسيا ” تقوم بالتأثير والضغط لصناعة توجه وهوية للمدينة.
المدينة تسير بقرارات إدارية فوقية، كل عامل يتم تعيينه بالإقليم يشتغل وفق رأيته الخاصة جدا، تخصه لوحده في غياب أي تصور أو مخطط شمولي ، يبقى فقط التدبير اليومي للإحتجاجات التي تتوجه كل يوم صوب مقر العمالة.
الآن بعد 43 سنة عن الإعلان عن قلعة السراغنة كعمالة بمواردها المجالية والمالية والمائية والبشرية ماذا تحقق ؟
للإجابة على هذا السؤال أستحضر ثلاثة مدن أوربية صغيرة زرتها وهي مدينة بيزا الايطالية، وكاستيون الإسبانية وليون الفرنسية للمقارنة ؟ مايميز هذه المدن الثلاثة عن مدينتنا رغم صغرهما هو التخطيط المحكم والمنظم، وكل مدينة لها هويتها الخاصة التي تميزها، فعندما تزور مدينة بيزا ، فإنك تشعر أنك تتواجد بمدينة بمواصفات تاريخية وهندسية وعلامة تميزها هو” برج بيزا المائل الشهير، هل البرج هو الذي صنع هذه المدينة أم صنعها الإنسان ؟ كاستيون هي الأخرى مدينة اسبانية صغيرة تجمع بن الطبيعي والهندسي ويظهر جليا اللمسة البشرية في تهيئة المدينة بمواصفات جمالية رائعة، السياح يتوافدون عليها في كل الفصول، هناك شيء ما يشدهم بهذه المدينة ربما أنواع الزليج والرخام الذي يتوفر بكثرة في البلدة الصغيرة “فيلا ريال” التابعة لها أو ربما شيئا آخر، أما مدينة ليون فهي الأكبر في هذه المدن بحدائقها وشوارعها ومكتباتها، على ذكر المكتبة، كنت ذهبت هناك لشراء كتاب كان ممنوعا دخوله إلى المغرب، فقالت لي صاحبة المكتبة المحلية للمدينة : أجئت من المغرب من أجل شراء كتاب ” صديقنا الملك ” وهو لمؤلفه الفرنسي جيل بيرو، فقلت لها نعم نحن المغاربة لايحركنا سوى المال أو النساء أو الكتب…فقالت لي : أنتم المغاربة شعب ذكي ولكن ينقصكم (….)…..
كل هذه المدن تشعر أنها لها انتماء ما، وأن هناك حب وعناية شديدين من مواطنيها اتجاهها، وهناك عقل، عقل إبداعي يسهر على تدبيرها.
مدينتي لها تاريخ هذا ما نجاهد جميعا لإثباته، ولكن لا نجد من هذا التاريخ سوى بعض الصور القليلة لبعض الحيطان أو بعض الدور الأيلة للسقوط ، هناك فقر هندسي كبير، المدينة هي الأبنية، و حكايات المجانين الملهمة، التاريخ هو مايترك من آثار مادية ومعرفية وقصصية ونقارن بها فيما يتفق على تسميته بتاريخ المدن.
وعودة إلى الوراء، فالمدينة لم تكن تتوفر سوى على مسجدين ” المسجد الكبير ” بالعرصة، ومسجد سيدي عبد البرحمان الولي الصالح، رغم أن المدينة يمكن أن تلقب ” بمدينة القرآن ” لكثرة فقهائها المشهورين على الصعيد الوطني بتدريس الفقه وعلوم القرآن وكذا كثرة الحفظة للقرآن الكريم، بالمقابل نجد المدينة لا تتوفر على مكتبات أو مدارس للعلوم، ولا جامعات ولا معاهد، ولا دور للثقافة والمسرح والسينما والموسيقى والرقص والرياضة، هؤلاء جميعا يشكلون التراث الحقيقي لذكاء المدن.
وإذا رجعنا إلى تعريف المدينة من طرف باحتي العمران، فإنهم يعرفون المدينة ” بأنها مجموعة من الشبكات، كشبكة الماء والكهرباء والصرف الصحي ، والشوارع والحدائق، والمؤسسات التي سبق ذكرها….
انطلاقا من هذا التعريف فهل يمكن القول أن مدينة قلعة السراغنة تستحق أن تأخذ صفة مدينة ؟ مع أخد الاعتبار أن هذه المؤسسات من مسرح ومعاهد وجامعات وغيرها …لها دور كبير في التنشئة الاجتماعية وفي الرفع من الوعي والذوق العام وصناعة مواطن برؤية خاصة.
والمجال بأي حال من الأحوال لايمكن أن ينشط وينتج في غياب هذه المؤسسات، فلكي يصبح المجال يغني فهو يحتاج إلى أركستر، إلى فنان ذو مواهب وهذا الفنان هو المواطن المؤهل، فهل نتوفر على مواطن مؤهل لِيُنَشِطَ ويقودَ مجاله أحسن قيادة مع العلم أن مدينتنا تعرف أكبر نسبة أمية في المغرب مع الأسف.
المدينة لايصنعها الإداريون والاجتماعات الماروطونية للمسؤولين ، وتلميع الواجهات وإنما يصنعها العبقريون، في الفن والموسيقى والتشكيل والأدب، والسينما، والنحت وغيرها من الفنون الراقية التي تضفي على المدينة وسكانها حلة الجمال والإمتاع، المدينة تصنعها الرؤوس التي تفكر بإبداع ونكران الذات.
عندما زرت فلورنس بإيطاليا، أدهشني ما رأيته من جمال هذه المدينة من كنائس مثيرة وأماكن جد منظمة ونهر يقسم المدينة على اثنين زادها بهاء وجمالا استغربت لذلك، وبعد مدة طويلة وأنا أقرأ كتاب “مختصرتاريخ العالم” للمؤرخ الايرلندي “أي أتش غومبريتش والذي يتحدث عن المائة شخصية التي أثرت في التاريخ وجدت اسم ليوناردو دافينتشي العبقري ومما زاد في دهشتي وجدته من موالد مدينة فلولرنس .
كاتب مغربي