صلاح الوديع
لم تُقْعِدني حرب إسرائيل الإجرامية على غزة وما عداها – على بشاعتها – عن مواصلة الاهتمام بتاريخ المغرب.
فقد استأثر َكتابُ مذكراتٍ لرجلٍ يحظى باحترام الجميع، استأثر بوقتي تدريجياً. عنوانُ الكتاب هو “المغرب… السنوات الحرجة” للراحل المهدي بنونة، وقد حرَّره الإعلامي البارز طلحة جبريل بلغة غاية في السلاسة عام 1989. كان ذلك قبل 35 عامًا.
أثناء قراءتي لهذه المذكرات علمتُ، بين نقرتين، بالقرارِالأخير للرئيس الفرنسي بشأن قضية الصحراء المغربية.
قرأتُ رسالة الرئيس ثم البيان الصادر عن الديوان الملكي وأوليت الأمرَ الأهميةَ التي يستحق. غير أنه سرعان ما استوقفتني الصيغة التي تتحدث عن “حاضر الصحراء الغربية ومستقبلها”…
تساءلت: هل حاضر ومستقبل الصحراء يستقيمان دوم الحديث عن الماضي؟
الماضي…
ذلك الذي أعادتني إليه ذكريات الراحل المهدي بنونة.
كان المهدي بنونة مناضلًا وطنيًا ملتزمًا قضى جزءًا من سنوات دراسته في نابلس بفلسطين ابتداء من عام 1929. نشط سياسياً في شمال المغرب عند عودته، وقام بعمل رائع كناشط وطني وكصحفي في تطوان. حتى أنه تمكنَ من إمداد الراحل محمد الخامس بالصحف، كما يروي هو، مما ساعده على تتبع ما كان يحدث في البلاد عن كثب، من منفاه في مدغشقر.
من خلال قراءة هذه المذكرات، نتعرف على الكثير من المعطيات. بعضها معروف جيداً، مثل مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، الذي كان مقدمة لتقسيم بلادنا بين فرنسا المتوثبة للغزو الاستعماري وإسبانيا التي تراجع وهجها في أوروبا، في وقت كانت الأطماع الاستعمارية مستعرةً، أدتْ من ضمن ما أدتْ إليه، إلى معاهدة الحماية الموقعة عام 1912.
ينبغي أن نتذكر هنا أن شارل دو فوكو كان قد حل بالمغرب قبل ذلك بسنوات حيث قام بما يشبه المسح التفصيلي لبلادنا. ومن المؤكد أن كتابه “استطلاع عن المغرب” الذي نشره في عام 1888، قد استفاد منه الاستراتيجيون الفرنسيون في مؤتمر برلين 1894-1895، للاستيلاء على الجزء “الأكثر نفعا” من بلادنا، تاركين لإسبانيا الجزء الذي اعتبروه غير مُسيل للُّعاب.
إن أكثر ما أسرني في مذكرات السيد بنونة هو قدرته على استرجاع التفاصيل والأحداث التي كانت تؤطر سلوك ومواقف السلطات الاستعمارية الفرنسية التي عملت دون كلل، مهما كانت القوى السياسية على رأس السلطة في باريس، على فرض الاستراتيجية الاستعمارية، وعلى تنشيطها كلما تعثرت.
وقد أثار غضبي سياقان على وجه الخصوص: سياق نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما تصرفت فرنسا – التي تخلصت بشق الأنفس من النير النازي، بفضل شجاعة وتضحيات جنود المشاة المغاربة وغيرهم – تصرفت بشكل متعجرف، حيث رفضت مطالب المناضلين الوطنيين سنة 1944، وهاجمت مواقف الراحل محمد الخامس، خاصة بعد خطاب طنجة في 9 أبريل 1947. وحتى ديغول الذي تحمّل المخاطر جراء الانهيار المفاجئ وغير المفهوم لنظام بيتان عند بداية الحرب، لم يجد الشجاعة لوقف سياسة بلاده الاستعمارية عند نهاية الحرب، وغض الطرف عن جحود باريس تجاه الشعوب التي دفعت من دمائها ثمن هزيمة ألمانيا النازية.
أما السياق الثاني فيتعلق بموقف الحكومات الفرنسية المختلفة في التعامل مع تداعيات نفي محمد الخامس. فحتى قبل هذا التاريخ – في ديسمبر 1952 – كانت القوات الفرنسية قد قررت إطلاق النار على الوطنيين المحتجين دون تأنيب ضمير. وكانت جثامين مئات الضحايا المغاربة، إن لم تكن الآلاف، تملأ شوارع المدن والبوادي المغربية بانتظام. وكان المقيمون العامون يأتون ويغادرون، متمسكين بعنجهية قمعية تكاد تكون إجرامية. وسارت على خطاهم دوائر استعمارية شرسة من بين الفرنسيين المقيمين في المغرب والبالغ عددهم حوالي 450 ألف فرنسي آنذاك…
كان الفرنسيون المحبون للعدالة موجودين في المغرب كما في فرنسا. لكن لسوء الحظ، ظل تأثيرهم محدودا للغاية.
غير أن حسم الأمور تطلب استمرار الموقف الثابت لمحمد الخامس، وتحرك الأوساط الوطنية والنقابية داخليا وخارجيا، وسقوط مئات القتلى المغاربة خلال المظاهرات، وتأسيس جيش التحرير واندلاع العمل المسلح، وبروز نظام عالمي جديد مؤسس على هيمنة الثنائي الاتحاد السوفياتي – أمريكا، كي تقرر فرنسا التفاوض وقبول عودة محمد الخامس من المنفى.
في هذا السياق، كان على القوتين الاستعماريتين، عند الإقرار باستقلال المغرب سنة 1956، كان عليهما اعتماد الموقف الوحيد المؤسَّس على العدالة التاريخية، والذي يعني إعادة جميع أجزاء المغرب المستعمرة سنة 1912.
كان من شأن مثل هذا الموقف أن يعكس استعداداً صريحاً وواضحا من جانب القوتين الاستعماريتين السابقتين آنذاك للاعتراف بهذه الحقيقة وإعادة الأمور إلى نصابها. لكن الأمر احتاج إلى خمسين سنة أخرى بعد الاستقلال المبتور لكي يأخذ التاريخ مجراه من جديد، ولو جزئيا، وحتى يتبين مدلول المخطط الذي تمت تجزئة المغرب بموجبه والذي تعتبره المعاجم اليوم ظالما مجحفا، وحتى نستطيع جميعا أم نتأمل تاريخنا وتاريخهم دون ضبابية كبيرة. وحتى نفهم مدلول الاعتراف الفرنسي اليوم بعد أكثر من قرن على معاهدة الحماية.
نعم، لقد كلفنا ذلك كل هذه السنوات. كل تلك الأجيال. كل تلك التضحيات.
لربما كان هذا هو سبب إغفال التاريخ في رسالة الرئيس.
لكن لا يهمّ. مرحى بهذا الاعتراف إذن.
أما الماضي فنحن به كُفلاء. كما الحاضر والمستقبل.
نعم، سيدي الرئيس، أنتم على حق، حاضر الصحراء ومستقبلها يندرج في إطار السيادة المغربية.
وماضيها أيضا، سيدي الرئيس.