عبدالله بوصوف
حاز الحديث عن منطقة الحوز مساحات شاسعة في عمليات التفكير و البحث و التفكيك و الكشف…و استغرق ذلك وقتا طويــلا للعديد من الباحثين في مجالات السوسيولوجيا لفهــم معادلات منطقة لعبت دورا رياديا في مجالات السياسة و الفقة و القضاء و الشعــر…
لذلك ونحن نهم بالحديث عن الحوز أو عاصمتها مراكش ، فاننا نستحضر كتابات ابن خلــدون و الناصري في كتابه ” الاستقصا لتاريخ المغرب الأقصى مرورا بكتابات و أبحاث الفرنسي / المغربي ” بـول باسكون ” و أيضا الأستاذ ” حسن رشيق “…وغيرهم من السوسيولوجيين المغاربة الذين انشغلوا ” بمدينة النخيل” و ” المدينة الحمراء” مــراكـش …
مراكش ، ملهمة الشـعـراء و الفنانين و الكتاب و الفلاسفة…و حاضنة للقضاة و الفقهاء المتصوفون… مراكش بلاد ” سبعة رجال ” : يوسف بن علي الصنهاجي ، عياض بن موسى ، أبو العبـاس السبتي ، محمد بن سليمان الجزولي ، عبد العزيز التباع ، محمد بن عجال الغزواني ، عبد الرحمن الضرير…
مراكش،عاصمة المرابطين و الموحدين و السعديين…احتضنت قصور الأمراء ( القصر البديع والباهيـة…) و قبـــورهم ( قبور السعديين ) وقِــبَبِــهم ( القبة المرابطيـة ) ومساجدهم ( مسجد الكتبية و تينمل..).. و” الملاح اليــهودي ” و السور الكبير ، وشهدت حـروبهم و توسعهم الى تلمسان و الاندلس و جنوب الصحراء…قـوافـل السكــر و الملح و الزيتون و الجلــود…في اتجاه العمق الإفريقي و أوروبا…
حكايات و حكايات عن المؤسسين و عن ” أمير المسلمين ” يوسف بن تاشفين و عشـقه ” لزينب النفــزواية ” و كيف بنى مدينة مراكش من أجلهـا هِـيَ…من أجل سيدة جمعت بين الجمال و رجاحة العقل و الحكمة..حتى لقبها العديد من المؤرخين ” بالمرأة الحديدية “…
العديد من قصص و أساطير مدينة مراكش..تُـعرض شفهيـاً في ساحة ” جامع الفنــا ” حيث أبـدع رجال ” الحَلْـقة ” و الحَكَــواتِيـة في صيانة و المحافظة على الموروث الشفهي…
لكل هذا الزخم التاريخي و العمراني و الإنساني…يفضلها العديد من الأجانب و المشاهيــر الأوروبيين للإقـامـة و العيش فيها، لهذا تعتبر مراكــش وجهة سياحية مهمة ذات صيت عالمي.. ومحرك إقتصادي و اجتماعي و تنموي كبــير..غيرت من وجه المدينة التي أصبحت فضاءا مفتوحا للتصوير و الإنتاج السينمائي..و بازارات و فنادق مصنفة و مطاعم فاخرة و 40 ألـف صانع تقليدي..
لــذلك فلا غرابة أن تضُم منظمة اليونسكو مـآثـر تاريخية و مواقع أثرية إلى لائحة الثرات العالمي..فـقـد تــم ضم مدينة مراكش سنة 1985 ، و كذلك قصر البديع و حدائق المنارة و جامع مولي اليزيد و مدرسة ابن يوسف و قصبة مراكش و ساحة جامع الفنـــا…
و غيـر بعيد عن جنوب مدينة مراكش…تطل علينا صومعة ” مسجد تينمل ” أو” المسجد الأعظم ” بمنطقة تينمل ” التابعة لإقليم الحــوز ، والذي بناه الخليفة الموحدي ” عبد المومن بن علي ” سنة 1153 م ، تخليدا لذكرى “المهدي بن تومرت ” الزعيم الروحي للموحدين …كما يعتبر المسجد معلمة فارقة في العمارة المغربية الإسلامية صمدت منذ القرن 12 الى حدود زلزال الثامن من شتنبـر 2023…
و الاتجاه جنوب مراكش يعني أيضا منطقة تارودانت وهي من أعرق و أقــدم المدن المغربية ، حاضرة ” سوس العالمة ” تشتهر بكتاتيبها القرآنية و مدارس التعليم العتيق و بــسورها العظيم الذي يـقترب عرضه 8 امتار و ارتفاعه 10 امتار و طولــه 8 كيلومترات و يتوفر على 5 أبواب و 150 بــرجا…وهو أقــدم سور بالمغرب وافريقيــا..وهو ثالـــث أقدم سور في العالم بعد سور الصين و الهنــد..
لقـد سـاهم الموقع الجغرافي لمدينة تارودانت أن تكون مــركزا تجاريًا افريقيــا مهمــا…ومجمع العلماء و الفقهــاء ومهــد ميلاد الدولة السعدية قبل انتقـالها لمدينة مراكش..
لــذلك كان لابد لمدينة لها كل هذا القدر السياسي و العلمي و الفقهي أن تُــحاط بســور كبير يلعب دورا أمنيًا و دفاعيا و جبائـيا…و أن يحضى بعمليات الترميم وإعادة البنــاء منذ المرابطين و الموحدين والسعدين و العلويين..
و يختزل ســور تارودانت العديد من الذكريات التاريخية و الشخوص القوية ، و يعتبر بحق ذاكرة تاريخية وطنية وإنسانية ، و بيــئة اجتماعية عاش فيها المسلم واليهــودي و المسيحي منذ قرون عديدة…لذلك يستحق أن يكون ضمن لائحة الثرات العالمي لمنظمة اليونيسكو..
و أثناء التـوجه جنوب مراكش نحو مدينة ورزازات تطل علينا بكل شموخ من فوق هضبة مطلـة على الـوادي ” قصبة ايت بنحدو ” معلمة الهندسة الثراتية للجنوب المغربي و البيوت الطينية و الأبراج العالية…شُـيًـدت في القرن الحادي عشـر في عهد أمير المسلمين ” يوسف بن تاشفين..لأسباب أمنيـة و دفـاعية و اقتصاديـة.. فـتفَــرُد هندسـتها و مواد بناءهـا و موقعها الاستراتيجي التاريخي وصمودها أمام الغزاة و أمـام العوامل المناخية منذ عشرة قرون…أهلـها أن تكون ضمن الثرات العالمي في لائحة اليونيسكو سنة 1987..كما جـذب إليها الباحثين و السياح و المخرجين العالميين لتصوير أفلام تاريخية نالت جوائز الأوسكار العالمية ك ” المومياء” و ” المصارع ” و ” صراع العروش “…
كل هــذا الإرث المغربي من مآثر تاريخية و عمـران و مواقع أثـرية… تحتضنه منطقة الحــوز و ورززات و شيشاوة و أزيلال و تارودانت و دواوير الأطلس….و تختزل الذاكــرة المشتركة لكل المغاربة و تاريخهم و شخصيتهم..أصبحت مع مرور الزمن مصدر إلهام و فخــر و عنــوان كبيــرا للحضارة المغربية الضاربة في عمق التاريخ…
وقــد أثبت زلــزال الحوز ليوم 8 شتنبر…أن المغاربة شغوفون بثراتهم و حريصون على حمايته و المحافظة عليه للأجيال القادمة… لقد وثّــق المواطنون المغاربة أثناء الزلزال ، الهزات و التصدعات و حالات الهـدم و التشققات التي مست المآثــر التاريخية بسبب الزلزال ذو السبع درجات على سلم ريشتر ، في كل من مراكش و قصبة أيت بنحدو و مسجد تنميل و تارودانت و غيرها من كنوز المغرب…وهي إشارة قــوية إلى أن الاهتمام بالرأسمال اللامــادي المغربي ليس شأنا نخبويا فقــط ، بل هو شـأن مغربي وذاكرة أمـة و مشترك إنساني…
عبدالله بوصوف…