*عبدالله حرمة الله
في حضرة الزعيم جمال عبد الناصر ( الأولى )
أَقول وقد حالت قرى الكرد بيننا
جزى الله عمرا خير ما كان جازيا
أفرج المرور العابر لرجل الدولة الشاعر، العالم المتواضع؛ صاحب المعالي والسؤدد عبدالله بن أربيه، أفرج عن صورة فاقت في نصاعتها الإطار المهترئ، مستقرة، بما يليق في سماء جمال بلاد شنقيط. ينتمي الأديب الذي انشغل بحياة الدولة وتربية الأجيال، لنخبة افرانكوفونية تحفظ القرآن وتتقن لغته التي اقتطع لها حيزا مهابا من العمل السياسي والدبلوماسي قبل ترسيمها. كان قوميا من الطراز الرفيع.
صار الرجل القادم من صحراء احتضنت رطب البركات وكرامة الإبل والاحاطة بجفرافيا لغة الفرقان ونور البذل وعلياء الزهد؛ صار، بين عشية الوبر وضحى العمران، رجل دولة يسهم بأريحية في فك طلاسم العلاقات الدولية، واستواء مركب الإبداع على بحر العبقرية؛ لينبئ لاحقا غيابه عن حجم الحيز الذي ملأ بتواضع شهي و الأدوار الخرافية الراسخة كمرجعية لكبرياء النخب النظيفة، المدينة له بالحب والاحترام ثم الوفاء.
تكتمل عظمة الرجل، لحظة استحالة مسار حياته نبضا لروح أمته، في عبور ملحمي لارتباطات هلع الذات ورسم المقام؛ نحو روح حروب وثورات وإبداعات الانتماء الحضاري المرابط في القلب، المتدثر بمفردات فكر الولاء لثوابت الكرامة وأواصر المودة؛ ليكتمل بهاء نسيج تلاقي الفعل بالإرادة، مفسحا أمام ميلاد رجل استثنائي : رصع تراث الأجداد بصناعة عظمة تٌسمع خافت تريثه العالم، لتطغى سلطة أناقة حضوره على مرابع الصفوة و منابر الحياة.
اكتشف المشرق، الوجه الجميل و الأيادي النظيفة للراحل عبدالله بن أربيه في الحادي والخمسين بعد خمس مائة يوم من استعادة موريتانيا سيادة الضاد وكسب معركة الهوية الطويلة؛ عبر مقابلة تصدرت صفحة زهرة الإعلام الموجه، المحترمة “صوت الشرق “في طبعتها الفرنسية، التي وثقت انبهار الصحفي بالاتقان التام لسفير موريتانيا في الجمهورية العربية المتحدة لغة موليير، ووضوح عربيته. تحدث بطلاقة وعفوية عن تبني الشعب الموريتاني للقضية الفلسطينية ومناهضته المعلنة للصهيونية و الآبرتايد، ومكانة الزعيم جمال عبد الناصر، الذي ربطته به علاقات شخصية قوية تجاوزت جمود العمل الدبلوماسي لترقى لمقام الصفاء والتخلص من بعض إكراهات البروتوكول، لمستوى التخاطب بصيغة المفرد، حيث تعود الزعيم تضمين ثقته، تذكير صاحب السعادة بأنه سفير مصر في القاهرة، و سفير الرئيس جمال عبد الناصر في نواكشوط.
اعتاد الاتحاد الاشتراكي، استقبال ظرف مهاب، يرقد بين طياته صك نقدي حرر بخط شنقيطي وقور، بقيمة أربعة وسبعين جنيها مصريا وخمسة وعشرين قرشا، كمساهمة شخصية من الكبير عبدالله بن أربيه في المجهود الحربي، مقتطعة من راتبه الشهري. كان حريصا على تفادي الزخم الإعلامي المرافق ساعتها للمواقف القومية، حيث رفع لعلم القيادي في الاتحاد الاشتراكي عبد المجيد فريد، رغبته في تفادي النشر، مشددا، ” أكره التظاهر بما أعمله في ساعة الجد”، حملت الرسالة الصادرة في الخامس يونيو من العام سبعة وستين وتسع مائة وألف، فوق التوقيع : المخلص عبدالله بن أربيه، تأكيدا على المبادرة الشخصية.
تعتبر رسالة اعتماد عميد السفراء الفاضل عبدالله بن أربيه، لدى الزعيم جمال عبد الناصر، وثيقة مرجعية عن مواقف الشعب والدولة في موريتانيا من القضية الفلسطينية والميز العنصري في جنوب إفريقيا، و مناصرة القضايا العادلة عبر العالم، فضلا عن مقام الزعيم عبد الناصر في قلوب الموريتانيين وأبو الأمة فخامة الرئيس المختار بن داداه وسفيره.
عكست كذلك رسالة الاعتماد على المستويين الأدبي والسياسي، صورة واضحة لأبرز النزاعات الدولية و طبيعة الاصطفاف، عبر اعتماد قاموس التكييف الحقوقي والسياسي لمواطن الحيف ومواقف التعسف التي تتحكم في العلاقات الدولية. نقلت رسالة الاعتماد تحية أخوية من فخامة الرئيس المختار بن داداه، مشفوعة بفيض عواطف المحبة وصادق تمنيات السفير للزعيم عبد الناصر بالظفر. شددت على مستوى العلاقات بين الشعبين، معتمدة كسقف لحجم ومسار الثقل الحضاري، ظهور الإسلام، وطفقت تنثر بجميل العبارات وصادق المشاعر ، مواقف موريتانيا الثورية، وصمودها أمام ” عواصف الامبريالية”، وتحديها ” مكر وخدع الصهيونية “، بالتضامن الدائم، المعزز برفع الصوت في كل مكان وكل مناسبة، ” حتى تفهم الامبريالية أن الكل يفهمها، وأن الكل يأباها”.
تأثر فتى شنقيط بصولة رهط العدوان الثلاثي، فلجأ لمخاطبة الزعيم عبد الناصر بصفة شخصية عبر نص جميل وصادق، باسمه الشخصي، أرفقه الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية الموريتانية، الذي تكفل بتصوره واقتراحه ليعتمده فخامة الرئيس المختار بن داداه. استهل الرسالة التي كتبها من الكويت، ضبحا : ” باسم الله الذي لا إله إلا هو المعز لك المذل للأعداء”، وخاطبه قائلا : ” أيها البطل العظيم “، وأشفع، ” أيها القائد المظفر”، فاسترسل، ” أيها الحصن الحصين في وجه التآمر والعدوان”. واعتبره عدوانا على أحب البلدان على قلبه، نتيجة، ” حبي و إعجابي بقائدها “، مؤكدا، ” كان قلبي ينزف دما”. متمنيا الظفر لصديقه وزعيمه، وأن يراه ” منتصرا انتصارا يسكت إذاعات الغرب والشرق والجنوب والشمال”، متمسكا بزاده لتحمل الصدمة، ” يقينا مني أن أخلاقك السامية تشبع وتروي كل إنسان يحب الحرية “، صادحا، ” أنت أملنا نحن أبناء العروبة وأبناء العالم الثالث “، متباهيا بالنصر المعنوي : ” تحطمت أعصاب أعداء الإنسانية”، بعد العدول عن قرار الانسحاب.
بعد بكائية صاحب السعادة الملحمية، من قلبه إلى مقام الزعيم البطل، قرر المساهمة في صد العدوان وإزالة أثره، بالتوجه إلى مركز لفحص الدم، واعتماد نظام غذائي خاص لكي ” اتبرع بالدم كل أسبوع إن صح ذلك”، و التنازل عن ” ما يزيد على الضروري”، من ملابسه، ومبلغ خمس مائة إفرنك فرنسي جديد ، والعدول عن استعمال السجائر المستوردة وتدخين “الكليوباترا”، والتبرع بربع معاشه، بصفة دائمة، ” مادمت هنا أو هناك”. أضاف قبل تأكيده المعهود على إخلاصه للقائد: ” اللهم باسمك الأعظم انصر جمال عبد الناصر “. وختم برسم جميل لاسمه الذي احتل حيزا يليق بكبرياء بلاد شنقيط.
اعتاد تضمين برقياته الهم القومي، مشفوعا بمقترحات عملية تعكس حضور موريتانيا المادي والمعنوي في معارك العرب من أجل فلسطين، حيث ضمن برقية اعتيادية في الثالث والعشرين مارس من العام ألف وتسع مائة وتسعة وستين ، مقترحا دبلوماسيا بإصدار طابع بريدي يخلد معركة الكرامة تمجيدا لدحر الجيش العربي والمقاتلين الفدائيين للجيوش الصهيونية. يحفظ الأرشيف كما هائلا من البرقيات السرية المؤسسة عبر معطياتها وتحاليلها لمواقف تاريخية اعتمدتها الدبلوماسية الموريتانية لازالت موضع إعجاب وتمعن الباحثين في المسارات الدبلوماسية للعلاقات بين الجنوب و الشمال.
للارتقاء بمستوى تمثيل موريتانيا يعود له الفضل في اقتراح شراء بيت محترم في أحد أهم أحياء القاهرة، لاحتضان مكاتب السفارة و إقامة السفير، يتيح توفير مليونين و سبع مائة وأربعة وعشرين ألف فرنك غرب إفريقي، لاستعادة ثمن الشراء وزيادة معتبرة خلال عشر سنوات فقط. اعتبر آنذاك أن الإرادة المتوفرة في تعزيز وتقوية العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة، تجعل هذا الاستثمار الاستراتيجي يفرض نفسه، بعد امتلاك الدولة الموريتانية لعقارات مشابهة في بون و واشنطن.
حملت الحقيبة الدبلوماسية إلى نواكشوط بعد رحلة طويلة من القاهرة، تأريخا لاكتمال مهمة سعادة السفير عبد الله بن أربيه، موثقة في برقية رسمت الحرقة إملائها والحب والكرامة ترقيم سموها : ” (..)في السادس عشر مايو من العام ألف وتسع مائة وتسعة وستين، على تمام الساعة الواحدة بعد الظهر بالتوقيت المحلي، أخذت الإذن من الرئيس عبد الناصر، وفي ذلك الوقت بالذات كانت مهمتي كسفير قد انتهت.”.
كان في لوعة الوداع حرقة، مكثت، قبل أن تشعل، لاحقا، أمواج البي بي سي الطويلة، في فؤاده ألم فراق الزعيم عبد الناصر لحياة وأحلام العرب.
حارب الغرب عبد الناصر، حيا وافترى عليه شهيدا، لكنه احتل مكانا كبيرا في قلوب الشعوب العربية والإفريقية.
في موريتانيا: لا تزال ذكرى الزعيم جمال عبد الناصر، ترسم وبوضوح في عقول وقلوب الأجيال صورة الحلم العربي في الكرامة والوحدة والوئام، وصفحة مشرقة من التراث السياسي للعرب و للقارة السمراء. امتلك تأثيرا قويا، امتد خارج الوطن العربي وإفريقيا، لا تزال مكانته محفوظة في تاريخ النضالات الكبرى لأحرار العالم، وأعمال الباحثين في العلوم السياسية، وفي الأدب والفن؛ تمجيدا لرمز الحرية والعدالة الاجتماعية ومقارعة الاستعمار، الزعيم جمال عبد الناصر، طيب الله ثراه.
*كاتب وإعلامي موريتاني