عبد الصمد بنشريف
في مثل هذا اليوم توقف قلب القائد التاريخي الكبير، والوزير الأول المغربي السابق، وأحد أبرز وجوه الحركة الوطنية المغربية وأيقونة النضال اليساري عبد الرحمن اليوسفي عن الخفقان بعد حياة خصبة ومتشعبة. وعلى الرغم من شيخوخة الرجل، ومرضه منذ سنوات، إلا أن وقعا أليما خلفه نبأ وفاته على عموم الشعب المغربي، بكل مكوناته وأطيافه السياسية والنقابية والحقوقية والجمعوية والثقافية والإعلامية، فالجميع، رأوا في رحيل اليوسفي خسارةً جسيمة لا تعوّض. فهو سليل تجربة نضالية طويلة ومركّبة ونادرة، يتداخل فيها الواقعي بالأسطوري والتراجيدي والتاريخي، تجربة صاغها بقناعة المناضل الصلب، والحقوقي المتشبع بالمبادئ الكبرى، والسياسي الذي بنى ممارساته وعلاقاته ومواقفه على القيم والمثل والأخلاق. وقد جعلت هذه الخصال منه شخصيةً وطنيةً تحظى بالتقدير العالي، في بلده وخارجها، فقد كان ضرورة تاريخية بالنسبة للمغرب والمغاربة. والمؤكد أنه حاز من السجايا والمؤهلات ما جعله ينال الاحترام والاعتراف من كل الأطراف.
شخصية عبد الرحمن اليوسفي استثنائية من معدن خاص. ينعقد الإجماع عليه، وتتراجع بشأنه المواقف السياسية وتتلاشى الألوان الحزبية وتذوب الخلافات الإيديولوجية، فلا يمين ولا يسار، لا سلطة رسمية ولا أغلبية حكومية ولا معارضة. وهذا بالتأكيد ما ينسحب على رجل دولة كبير، عرف كيف يدير مرحلةً حرجةً من المسار السياسي للمغرب الحديث، عندما عينه الملك الراحل الحسن الثاني في العام 1998 وزيرا أول لقيادة حكومة تناوب سياسي توافقي، كانت حلقةً حتميةً وضرورة سياسية لإنقاذ البلاد مما وصفها الحسن الثاني نفسُه بالسكتة القلبية، ولضمان انتقال سلس للمُلك، وخصوصا أن الملك، كان يشعر بأنه لم يبق أمامه ما يكفي من العمر، فالمرض كان قد نال منه كثيرا. وبهذا المعنى، كان اليوسفي صمّام أمانٍ لمغرب ما بعد رحيل الحسن الثاني، وإحدى الضمانات السياسية الموثوق بها، على الرغم من شراسة مواقفه ضد نظام الحكم ومعارضته القوية للإختيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خصوصا في ظرفيةٍ تاريخيةٍ محتقنة ومضطربة، كان فيها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انتمى إليه اليوسفي، رقما صعبا في المعادلة السياسية، وفاعلا أساسيا في الحقل الحزبي برموزه التاريخية التي رحلت، كالقائد المختطف المهدي بن بركة والفقيه البصري وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم.
لا يتكرر الكبار ولا يحل محلهم أحد، وهنا مكمن الخسارة المطلقة، لأنهم يرحلون في اللحظات الحرجة، حيث الحاجة ماسّة إلى الحكمة والإنصات والرأي السديد. واليوسفي كان فارسا في ميدان السياسة والأخلاق، وكان النموذج والمثال. ولهذا يعتز المناضلون الذين ظلوا ماسكين على الجمر، وثابتين على الموقف، والمعجبون بقيم اليوسفي النضالية والأخلاقية، ويتباهون بانتماء هذا الرجل إلى مدرسة الأخلاق والفضيلة ونكران الذات، سيما أنه بقي وفيا للمبادئ التي تبنّاها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقيمه. وظل هاجسه، حتى بعد اعتزاله السياسة، وتقديم استقالته من مسؤولياته الحزبية عام 2002، الدفاع عن المشروعية ومناهضة الإقصاء، وتوحيد صفوف الحزب، ومحاولة نفخ الروح فيه، بعدما أنهكته (الحزب) سنوات تسيير الشأن العام وصراع المصالح بين أجنحته المتنفذة.