عبد العزيز كوكاس
يوجد المجتمع المغربي في معترك تحولات عميقة لا تمس بنيات مدنه وهيئة معماره وشكل طرقه وقناطره وجسوره أو تحولات طرق ومستوى معيش مواطنيه فحسب، بل تمس في العمق البنى الذهنية والفكرية وشكل تكوين الإنسان المغربي بمعتقداته وتصوراته وتمثلاته، وإذا كانت أدوات التأطير التي تساهم في خلق الإنسية المغربية من خلال ما تنتجه الأمة عبر التاريخ وما صنعه الأموات ومختلف أشكال العادات والتقاليد والرموز ومختلف الإبداعات والطقوس والمعتقدات والقيم… التي تنتقل عبر وسائل التنشئة الاجتماعية، من الأسرة إلى المسجد والكتّاب والمدرسة ووسائل الإعلام، فإن التحولات الكبرى التي أصابت العالم وفي مقدمتها الثورة الرقمية في زمن العولمة، التي نقلت إنسان اليوم من الإنسان العالم homo sapiens إلى الإنسان المتصل homo connecté أو الإنسان الرقميhomo numérisé، جعلت أدوات التأثير والتوجيه الوطنية التقليدية غير قادرة على القيام بوظائفها في التنشئة الاجتماعية، فلو طرحنا سؤالا على قسم واحد من التلاميذ في السلك الابتدائي أو الإعدادي عن معنى كونه مغربيا، لوجدنا ربما تعددا في الإجابات يقارب عدد تعدد التلاميذ في ذات القسم المنحدرين من ذات الطبقة الاجتماعية والبيئة السوسيولوجية نفسها.. مما يفرض إستراتيجية عميقة لاستيعاب التحولات الثقافية والقيمية والحضارية بالمغرب وتدارك كل أشكال النقص في أدوات التنشئة الاجتماعية على أساس رسم خريطة للمستقبل تستحضر ما يجمعنا كمغاربة ويحافظ على استمرار كينونتنا.
الانتماء للرقعة الجغرافية
ما معنى أن تكون مغربيا اليوم؟ هل الانتماء للرقعة الجغرافية هو ما يحدد هويتنا كمغاربة ويجمعنا برباط الانتماء للأمة المغربية؟ أم هو وجود ماض مشترك ولحمة تمتد إلى اليوم لتشد روابطنا للإقامة في ذات الزمان والمكان بأحلام وأماني مشتركة وقواسم ثقافية تسمح لنا بالعيش المشترك على ذات الرقعة الجغرافية؟
إن التحولات الجارية في العالم خاصة بعد كورونا قد عززت انطواء العالم على نفسه وعودة قوة الدولة الراعية، وإحساس الشعوب المقهورة بأن لا سند لها غير إمكانياتها، ولا نموذج حضاري لتطورها ولتنميتها غير ما تفرزه من خطط وإستراتيجيات وما تبدع من توجهات وإعداد مواطنيها بشكل جيد، من هنا فالاعتزاز بتامغربيت في تقديري يضع اليد على مفتاح أساسي للتوجه نحو المستقبل، أي الإحساس بالانتماء المشترك وامتلاك وعي عميق بالذات المغربية الحرة المستقلة والمتنوعة خارج البعد الفولكلوري الذي أصبح لدى البعض مثل تسليع البضائع، ولا في بعدها الشعبوي الشوفيني الضيق، الذي يخلق هوية قنفوذية توجد دوما في شكل دفاع المأزق عن الذات، وهذا شأن المثقفين والفنانين ومن يحمي الرأسمال الرمزي للأمة وليس شأن السياسيين، وللأسف فإن معظم مثقفينا لم يعطوا مضمونا حضاريا عميقا لمعنى تامغربيت اليوم، التي تعني أننا نعيش على هذه الأرض بأحيائها وأمواتها بتنوع امتداداتها الجغرافية التي تحتضن تاريخا صنعه الأجداد بأمجاده وبطولات أبنائه اليوم.. يجمعنا كمغاربة ويوحدنا هذا الوطن بتعدده الثقافي واللغوي وثرائه الحضاري ومصيرنا المشترك في أحضانه وكيف سنسلمه للمغاربة أبناءنا حملة مشعل المستقبل فيه.
إن تامغربيت لا تعني روحا وطنية مأزومة ولا ذاتا متعالية أو منعزلة عن محيطها الإقليمي وامتدادها القاري، وعن تفاعلات الأحداث الكونية.. تامغربيت لا تعني تضخيم الذات ولا استصغارها وهو ما يفرض الدفاع عن المغرب هوية وثقافة ولغة دون انغلاق أو تقوقع، ويحتم علينا الاقتناع بالحق في الاختلاف والحوار والابتعاد عن الغرائز في البحث عن حلول لمشاكلنا، باعتبار هذه الهوية أو الخصوصية الوطنية ليست معطى جاهزا يستعاد من الماضي، بل سيرورة تتشكل بكل امتداداتها المادية والرمزية والحضارية الكبرى الآن وهنا.
مقومات الذات المغربية
تامغربيت تفرض امتلاك وعي عميق بمقومات الذات المغربية بغناها وتنوع روافدها، دون تعالي أو دونية، بهذا المعنى تصبح تامغربيت هي جوهر الروح الوطنية التي جعلت أجدادنا وهم على تخلفهم وجهلهم وفقرهم يهزمون دولة متقدمة متفوقة علينا سلاحا وعتادا وعلما وحضارة، وهي سلاحنا لحل إشكالات عميقة مثل: التعدد الهوياتي اللغوي والثقافي وعلاقتنا بالمشرق ووجودنا اليوم كدولة مستقبلة للهجرة من العمق القاري للمغرب والذي بلا شك سيطرح إشكالات ثقافية واجتماعية عميقة في المستقبل القريب.
روح تامغربيت تعني ألا يظل دوما الانتساب إلى المغرب باهظ التكلفة، أي أن الأقلية تستفيد لوحدها من فوائد التنمية والأغلبية تدفع فقط ضرائب تامغربيت، بل تفرض التضامن والعدل والمساواة بين كافة المغاربة، حتى نتقاسم بالتساوي فوائد وأعباء التنمية بين مختلف الطبقات الاجتماعية، فتامغربيت ليست شعارا للحماسة الوطنية، بقدر ما هي روح مشتركة للتعايش على هذه الأرض وتقاسم أعباء الانتماء إليها وكذلك ما تنتجه من خيرات مادية ورمزية.
فهوم “الإنسية”
كنت دوما ميالا لمفهوم “الإنسية” كما نظر له الراحل محمد عزيز الحبابي والزعيم علال الفاسي، لأنه يمتلك غنى فلسفيا وامتدادا إنسانيا مفتوحا، لكن التحولات التي جرت في قلب العالم في سياق عولمة تبيد بشكل مهول، ليس فقط الجمارك والحدود لفتح الأسواق الدولية أمام منتجات الكاريطالات الرأسمالية الكبرى التي تتحكم في الاقتصاد الدولي، بل أيضا الخصوصيات الثقافية الوطنية، والهويات التي تمنح الدول تفردها وتميزها وتحمي تاريخها وحضارتها ومنتوجاتها المادية والرمزية على السواء، كل ذلك فرض بروز هويات متوحشة وردود أفعال ثقافية رافضة للانفتاح بل وترفع من شأن هوياتها بشكل عنيف ومتطرف في أحايين كثيرة، وهو ما يجعل الميل إلى الانتصار للهويات المنفتحة التي تسعى لحماية خصوصيتها دون أن تخشى أن تظل تحت الشمس التي تشع على مجموع الكرة الأرضية ضرورة ملحة، من هنا اعتقادي في تامغربيت اليوم، كهوية منفتحة وسيرورة تاريخية لما يجمع المغاربة ويمنحهم الاعتزاز بقيم العيش المشترك على هذه الأرض. ويحل الكثير من الإشكالات الثقافية والحضارية بل والسياسية والاجتماعية دون السقوط في فخ “السذاجة الوطنية المتحمسة” والقومية المنغلقة، بل يؤسس لتعاقدات عميقة ذات طابع ثقافي تعمق ارتباط الأجيال القادمة بانتمائها للمغرب، بلدا وثقافة وإنسانا منفتحا على السياق الكوني.