عبد الله بوصوف
تفصلنا بضعة أيام على تخليد اليوم الدولي للمهاجرين يوم 18 دجنبر والمُعْلـن من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر من سنة 2000، مما يعني أن سنة 2023 هي الذكرى الثالثة والعشرين من الأحداث والانفعالات وسلسلة طويلة جدا من الأبحاث والتقارير والخُـلاصات.
وقد تعودنا طيلة هذه المدة على صدور تقارير و نشرات و إحصائيات بالمناسبة، من طرف مراكز بحوث متخصصة ومؤسسات وطنية وهيئات حقوقية أممية، إذ تشترك أغلب تلك الخلاصات في الدور الكبير لظاهرة الهجرة على مستوى المساهمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…سواء في بلدان الاستقبال حيث تشير ذات التقارير الى إشكالات أزمة الديمغرافية و الهرم السكاني و الحاجة الملحة للعنصر البشري، أو في بلدان الأصل حيث يساهم المهاجرون في عمليات التضامن الاجتماعي والاستقرار المجتمعي والتنمية، وعادة تكون تلك التقارير معززة بالأرقام و الإحصائيات.
والأكيد أن لغة الأرقام ليست وجهة نظر، بل هي تعبير عن واقع حقيقي وأدوار ريادية يقوم بها المهاجرون؛ لكن قليلة هي التقارير التي تتحدث عن الوجه الشقي للهجرة ومعاناة المهاجرين ونضالاتهم من أجل الدفاع عن مكتسبات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية.
نعم، هناك من جعل من اليوم الدولي للمهاجرين مناسبة للبكاء الجماعي وخيمة عزاء على أرواح الغرقى والموتى في مقبرة المتوسط والبلقان وفي الغابات والجبال الحدودية…فيما يُشـيـر آخرون إلى الإشكاليات القانونية والحقوقية والثقافية لإدماج المهاجرين في مجتمعات الإقامة الغربية.
لكننا نعتقــد أن ” تسييس ” ظاهرة الهجرة وازدواجية المعايير واختلاف زوايا المعالجة السياسية والحقوقية والإعلامية، ساهمت في تراكم فكري غير متجانس الخلفيات الأيديولوجية والسياسية. كما ساهمت بشكل كبير في تغييب المهاجرين من برامج سياسات عمومية ترسخ لحقوقهم الاجتماعية والثقافية في مجتمعات متعددة الديانات والثقافات، وتجعل منهم مواطنين من درجة ثانية أو ثالثة وتلفظ بهم بضواحي المدن والمراكز الكبرى.
أضف أن تنوع المفاهيم القانونية واختلاف التعاريف والمصطلحات الخاصة بإشكاليات الهجرة كاللجوء والهجرة والتهجير الجماعي والمهاجر الاقتصادي والمهاجر المناخي واللجوء الإنساني…ساهموا أيضا في تعقيد عمليات تفكيك الإشكالية على المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي والإعلامي.
ورغم كل هــذه المعيقات، فإن ملف الهجرة واللجوء ظـل يفرض نفسه بقوة في زمن السلم والحرب والاوبئـة، وفي زمن الانتخابات والتحالفات السياسية. كما ظل المهاجر وبالأخص المهاجر غير النظامي هو الحلقة الأضعف في إشكالية إنسانية واجتماعية؛ إذ يَـدفع ثمن الصراعات السياسية والنزاعات المسلحة والتغييرات المناخية…ويُــدفع بـه قسرًا الى الهجرة والبحث عن مكان آمن ومستقبل أفضل لأبنائه.
وهي حالات عشناها مع تداعيـات الربيع العربي وموجات الهجرة الجماعية خاصة بين سنوات 2015 و 2017 وأحداث أفغانستان والسودان و الصومال وليبيا والحرب في أوكرانيا ودول الساحـل وأحداث غزة الأليمة. ففي كل مرة نُعــاين” تهجيرًا ” قسريًا وهروبا جماعيًا بحثا عن ملاذ ومكان آمــن، نحو أوروبا والدول الغربية.
وهنا لابد من الإشارة إلى التوظيف السياسي الماكر لملف الهجرة واللجوء من طرف أحزاب اليمين المتطرف التي تمددت داخل المجتمعات الغربية مستعملة خطابا شعوبيا وعدائيًا اتجاه المهاجرين والإسلام؛
وكيف جعلت منه ” حَطَبـا سياسيا ” يُشعـل حملاتها الانتخابية واستقراءات الرأي ويحملها إلى أعلى السلطة في هنغاريا وإيطاليا وبريطانيا وهولندا ودول الاسكندنافية والنمسا وبلواندا وفرنسا واليونان ومالطا؛ وكيف ساهم مفكري اليمين المتطرف في التأثير وتوجيه الناخب الأوروبي من خلال “صناعة الخوف” ونشر ثقافة الكراهية عن طريق نشر كتب وروايات وتسويق نظريات متطرفة “كالاستبدال الكبير” واعتماد تقارير إعلامية على مقاسات الفكر الميني العنصري المتطرف.
وهو الصراع السياسي الذي أفشل كل إجماع أوروبي حول ملف الهجرة واللجوء رغم تطور صيغ ” اتفاقية دبلن ” الثلاثة التي توقفت اضطراريا سنة 2017 في انتظار انتخابات البرلمان الأوروبي لسنة 2019.
واستمرار السجال بين المجموعات السياسية للبرلمان الأوروبي طيلة هذه الولاية حول ” اتفاق إصلاح نظام الهجرة بأوروبا ” وبالضبط منذ شهر شتنبر من سنة 2020 من طرف رئيسة اللجنة الأوربية، مرورا باجتماعات سفراء الاتحاد ووزراء الداخلية والخارجية من أجل التوافق حول صيغ مقبولة بين دول أوروبا الجنوبية (إيطاليا واليونان واسبانيا وفرنسا ومالطا وقبرص..) وباقي دول الاتحاد الأوروبي الأخرى في مواضيع إعادة توطين وتوزيع المهاجرين والسرعة في البث في طلبات اللجوء في وقت الأزمات؛ لينتهي المسلسل بمصادقة المجلس الأوروبي في شهر أكتوبر 2023 على اتفاق نظام الهجرة جديد في انتظار تغيير” اتفاق دبلن للهجرة واللجوء” وحسب أغلب المهتمين فإن النقاش سيؤجل الى ما بعد انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024.
وبالموازاة مع فشل بروكسيل في إنتاج سياسية أوروبية موحدة في موضوع الهجرة فإن بعض الدول الأعضاء تحركت أولًا، على مستوى قوانين الهجرة الداخلية كفرنسا والمانيا وبريطانيا والسويد والدانمارك وإيطاليا. وثانيا، على مستوى التنسيق الثنائي بين دول الاتحاد كفرنسا وإيطاليا (بعد تراشق سياسي حول تدبير حدودي للهجرة) وإيطاليا وألمانيا (بعد أزمة ديبلوماسية حول تمويل ألمانيا لمنظمات غير حكومية متخصصة فـي انقاذ المهاجرين في البحر المتوسط)، وفرنسا وبريطانيا (اتفاق مارس 2023 بين ماكرون وسوناك وتخصيص لندن لـمبلغ 500 مليون أورو لفائدة باريس من أجل وقف المهاجرين في بحر المانش و منطقة كاليي).
وثالثًا، على مستوى تحرك بروكسيل سواء لحماية الحدود الأوروبية من خلال توقيع اتفاقيات مع تركيا سنة 2016 ثم مع ليبيا وتونس/ قيس السعيد سنة 2023؛ أو لنَقْـلِ الحدود خارج أوروبا كاتفاق حكومة ميلوني الإيطالية مع ألبانيـا لإقامة مراكز إيواء للمهاجرين الغير النظاميين في انتظار البث في طلبات اللجوء، وكذلك فعلت بريطانيا مع رواندا رغم طعن المحكمة العليا في الاتفاق الأول، لكن حكومة “سوناك” أعادت توقيع اتفــاق ثاني مع دولة رواندا الافريقية.
لكنـنا نود لفت الانتباه إلى ازدواجية المعايير بشكل فاضح، فعندما يتعلق الأمر ببضعة آلاف من مهاجرين قادمين من آسيا والشرق الأوسط ودول جنوب افريقيا والساحل وشمال افريقيا على متن قوارب بالمتوسط أو من تركيـا فإن الآلــة الأوروبية تشتغل بمقاربة أمنية وثقافية وتاريخية على كل المستويات شرقا مع تركيا وجنوبا مع ليبيا وتونس وغربا مع المغرب ومنطقة كاليي بفرنسا.
لكن عندما يتعلق الأمر بهجرة جماعية كبيرة لحوالي 10 مليون أوكرانيًا بعد اندلاع الحرب في شهر فبراير 2022 ، رجع منها حوالي 4 مليون فقط الى منازلهم بأوكرانيا، فإن الآلـة الأوروبية تشتغـل بمقاربة إنسانية وحقوقية، بل إن الاتحاد الأوروبي قـد فعًـل لأول مرة مذكرة 55/2001 والتي تم المصادقة عليها منذ سنة 2001 والخاصة “بالحماية المؤقتة “.
اليوم ونحن نخلد اليوم الدولي للمهاجرين يجب أن نتذكر أن حكومة “مارك روث” الهولندية أسقطها ملف الهجرة، وفاز بتشريعاتها المبكرة زعيم حزب الحرية خيرت فيلدرز، العنصري المتطرف؛ ونتذكر حكومات اليمين بكل من اليونان وفرنسا ومالطا وإيطاليا وهنغاريا وبلواندا والدول الاسكندنافية والنمسا، ومالات قوانينها الداخلية الخاصة بالهجرة وتداعياتها على مهاجري تلك البلدان في انتظار انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024.
ونُـذكٍـر من جهة ثانية، بضرورة الضرب على أيدي تجار البشر ومهربي الحدود وبائعي “أحلام الهجرة” والمتاجرين في مآسي المهاجرين…بسـن قوانين جزرية وعقوبات سجنية قاسية مع تسهيل قنوات الهجرة والتجمع العائلي وتأشيرات العمل والدراسة وِفْـق مقاربة إنسانية وحقوقية تحفظ للمهاجر كرامته وخصوصياته الاجتماعية والثقافية والروحية.
لذلك وجب اعتبار اليوم الدولي للمهاجرين 18 دجنبـر. مساحة للتأمل في الحصيلة والمكتسبات. ومناسبـة لإعادة ترتيب أولويات المطالب وتقويتها أكثر منها مناسبة احتفالية أو فلكلورية.