24 ساعة-متابعة
شهدت الساحة التعليمية المغربية في السنوات الأخيرة تحولات مقلقة على مستوى العلاقة بين التلاميذ والأطر التربوية، إذ أصبحت مؤشرات العنف في المؤسسات التعليمية تتخذ منحى تصاعديا يستوقف الباحثين والخبراء على حد سواء.
وأمام هذا المنعطف الخطير، قدم الأستاذ عبد الرحيم عنبي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، قراءة تحليلية عميقة لهذه الظاهرة، من أجل الكشف عن أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية، وتضعها ضمن سياق تراجع منظومة القيم وانهيار أدوار مؤسسات التنشئة.
واعتبر عبد الرحيم عنبي، في تصريحه لـ”24 ساعة”، أن هذه الظاهرة تعكس خللا عميقا في وظائف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة، محذرا من خطورتها المتصاعدة وتأثيرها على التماسك الاجتماعي.
وأوضح عنبي، أن التحول في مظاهر العنف داخل الفضاء المدرسي بات يكتسي طابعا مقلقا، إذ انتقل من عنف رمزي أو مادي كان موجها ضد التلاميذ ضمن إطار التأديب التربوي، إلى عنف يمارسه التلاميذ أنفسهم ضد الأساتذة والأطر الإدارية، في تعبير خطير عن تمرد اجتماعي يتجاوز المؤسسة التعليمية ليصل إلى الأسرة والمجتمع ككل.
وأضاف المتحدث أن ما يقع اليوم في المدرسة من اعتداءات لفظية وجسدية على الأساتذة والمديرين وحتى الحراس العامين، ليس فقط سلوكا معزولا، بل يحمل رسالة انتقامية من المؤسسة الأسرية قبل أن تكون موجهة ضد المؤسسة التربوية، مشددا على أن هذا العنف يعكس تراجعا واضحا في سلطة القيم وفي وظائف التنشئة الاجتماعية.
وأشار عنبي إلى أن هذا التدهور يتزامن مع صعود منظومة قيم سلبية يروج لها الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تصور التمرد والعنف كأفعال بطولية تستقطب إعجاب المراهقين والشباب، الذين يتأثرون بما يعرض من محتويات وممارسات غير تربوية، سواء في الألعاب الإلكترونية أو في فيديوهات شبكات التواصل.
واستحضر الباحث في علم الاجتماع مكانة الأستاذ في العقود الماضية، خاصة في السبعينات والثمانينات، حينما كانت له هيبة واحترام كبير داخل المجتمع، لدرجة أن العديد من الأطفال والفتيات كانوا يتطلعون لأن يصبحوا أساتذة، بفضل الصورة الراقية التي كان يمثلها رجل التعليم، ليس فقط كملقن للمعرفة، بل كمرب وموجه.
لكن هذه المكانة، يقول عنبي، تراجعت بشكل خطير، وانهارت معها هيبة المدرسة كمؤسسة تنشئة، بعدما أصبحت ينظر إليها كوسيلة لتحقيق الربح، إذ يركز الآباء على التحصيل الدراسي فقط لضمان ولوج الأبناء للكليات والمعاهد العليا، دون اكتراث بالجانب التربوي أو الأخلاقي، وهو ما يجعل القيم تتراجع لصالح نزعة مادية تبحث عن الربح السريع.
وأكد أستاذ علم الاجتماع أن الإعلام الرقمي بات يتناقض مع القيم العلمية والتربوية، مروجا للعنف والربح السهل والانفلات من الرقابة، مضيفا أن ذلك يؤثر بشكل مباشر على سلوكيات التلاميذ ويغذي لديهم شعورا بالخروج عن النظام، ما يجعلهم يتمردون على كل أشكال السلطة الرمزية، بما فيها سلطة المدرس والمدرسة.
ومن أجل التصدي لهذه الظاهرة، دعا عنبي إلى مراجعة السياسات التربوية، والعمل على إرساء آليات جديدة تعيد الاعتبار للمؤسسة التربوية كمجال لتخليق السلوك وتنمية قيم المواطنة والاحترام المتبادل، مؤكدا على ضرورة تفعيل التواصل بين الأسرة والمدرسة، ومعتبرا ذلك شرط أساسي لتجاوز الأزمة.
كما شدد على أهمية إحداث مهنة الأخصائي الاجتماعي والنفسي داخل المؤسسات التعليمية، وهو مطلب ظل علماء الاجتماع والنفس في المغرب ينادون به منذ سنوات، مع ضرورة تخصيص مهام واضحة لهؤلاء الأخصائيين، وتجاوز توظيفهم في وظائف إدارية لا تمت بصلة إلى اختصاصهم، محذرا من استمرار غياب الإنصات للتلاميذ والأسر والمحيط الذي يعيشون فيه.
وختم عنبي بالتأكيد على أن العنف المدرسي في تصاعد منذ جائحة كورونا، وأصبح يحمل مظاهر خطيرة، وهناك حالات اعتداء جسدية خطيرة طالت أساتذة ومديري مدارس.
وحذر عنبي من أن الوضع مرشح لمزيد من التدهور في غياب مقاربات شمولية تشاركية تعيد الاعتبار للمدرسة والأسرة معا، وترسخ قيم الاحترام والانضباط والتربية داخل المجتمع.