عبد الكريم ساورة
قضى أربعين سنة يشتغل “شاوش” لدى رئيس الشؤون العامة بإحدى المديريات المركزية، الجميع ينادي عليه ” اينشتاين ” لأنه كان غريب الأطوار، ومع كثرة الأحداث العجيبة التي تقع له بين الفينة والأخرى مع أهله وأبنائه وأصدقائه، نال هذا اللقب عن جدارة واستحقاق، مع ما عرف عليه من أقوال و ” حكم ” ومستملحات في الكثير من الشؤون التي تجعل كل المحطين به ” يسقطون” من الضحك، إنه علامة حقيقية، لرجل يعيش خارج الزمن.
يجلس على الباب، ببذلته الزرقاء الصوفية التي لم تفارق جسمه الصغير كل العمر، وحدائه الكبير، وربطة عنقه السوداء التي تنزل إلى الأسفل، على فخده الأيمن يضع رزمة من المفاتيح كأنك تعتقد من الوهلة الأولى أنه حارس عمارات، كان دائما يقول للعاملين معه، وصيتي الوحيدة في هذه الدنيا أن تدفن معي كل المفاتيح و “بذلتي الرسمية ” ولماذا يا اينشتاين ؟ كانوا يسألونه ؟ فيجيب بعفويته المعهودة لإنني أنا السلطة الحقيقية وليس رئيسي المباشر،أنا من يتسلم كل الوثائق السرية وأسلمها لكل المكاتب، أنا من يدخل كل المكاتب بدون استئذان، أنا الذي لم أفتح ملفا واحدا سلمه لي رئيسي مند أن ولجت دهاليز هذه المديرية الشريفة، أنا الحارس الأمين على كل الغرف السوداء.
ويضيف وبنوع من اليقين : أنا الرئيس الحقيقي لهذه المديرية التي بنيت حجرة حجرة وورقة ورقة وملفا ملفا على أكتافي، كل الجدران ، والكراسي والمكاتب، تعرفني، وكل الرؤساء السابقين يشهدون لي بعبقريتي .
كان كلما نزل من الطابق الرابع ، لقضاء غرض من الأغراض ، إلا وجد كل الترحيب والتحية من طرف العاملين معه، كل واحد يمازحه بطريقته الخاصة، وهناك من يقوم بانحنائة ما أو إمائة كإشارة منه للآخرين أن المسؤول الأول بالمديرية قادم، كان يتحرك بصعوبة، يشد جيدا على سرواله حتى لايسقط منه، ومرة مرة يحرك قبعته تعبيرا منه على سمو مركزه، محاولا تقليد رجال الجيش الكبار، إنه يتحرك على الخشبة، يصنع الفرجة في كل ممر يمر به وكل سلم ينزل منه إلى الأسفل، ملفوظا إلى هامش الهامش .
ومن الأحداث الغريبة التي عاشها اينشتاين، وسجلت بمداد من ذهب، عندما تزوجت إحدى بناته، وطلب منه رئيسه أن يتسلم رخصة يوم زفافها فرفض ذلك بشدة معللا رفضه بأن الجندي لايجب أن يُسْمَعَ عليه أنه ترك الميدان لقضاء غرض من الأغراض مهما تكن الظروف، يجب أن يظل صامدا وواقفا كالعلم لاينزل أبدا. ولعل هذه من المفارقات العجيبة لهذا الرجل الذي لم يحصل على عطلة مدى الحياة، ولما سُئِلَ عن سبب رفضه لتسلم رخصة عطلة من العطل ؟ أجاب بعفويته المعهودة : أخاف أن يُوضَعَ رجلا آخر مكاني وأضاف : الوقت صعب بالبلاد، وليست هناك ثقة في أحد ……
في أحد الأيام من نهاية الصيف، حضر إلى مقر عمله باكرا، كانت تبدوا عليه علامات الفرح والانتشاء، تركن قرب إحدى المكاتب وظل واقفا حتى جاء أحد العاملين المعروفين بالمديرية بإلمامه الكبير بملفات الاعتقال السياسي، وبادره اينشتاين بسؤال عن الصحافة دون تحية ، ومن شدة المفاجأة اعتقد صاحبنا أن هناك ملفا تم اختراقه من طرف الصحافة ويدخل في صميم عمله، وقد يفتح عليه النار من الجهات العليا التي تريد طي هذا الملف الأسود بأي طريقة لما يسببه من إحراج لها لدى المنظمات الحقوقية الدولية.
بطريقته المعهودة، تدخل اينشتاين وحاول تخفيف الوطء على ذلك العامل، قائلا له : لا تخف ياصديقي ، لقد جئتك لتساعدني كيف يمكن أن تلتحق ابنتي بإحدى المعاهد الصحافية، بعد أن حصلت على شهادة الباكالوريا، وعلى الفور أجابه العامل : هل بنتك تحب الصحافة ؟ فأجاب اينشتاين : لا علم لها بالمرة بهذه المهنة، ولكن أنا من يحب الصحافيين الأحرار لما يقومون به من عمل كبير في إظهار الحقيقة.
فاستغرب العامل من كلام اينشتاين وسأله وقلبه يضرب بقوة عن أي حقيقة تتحدث ؟ فرد اينشتاين وهو يبتسم : حقيقة الفوضى التي تسود العالم ياسيدي. فحرك العامل رأسه كأنه لأول مرة يحدث رجلا حقيقيا.
بعد يومين، أذيع خبر سرقة إحدى الملفات المتعلقة بموت أحد المعتقلين بإحدى المعتقلات السرية والتي تدين الأجهزة السرية، الملف كان مركونا بإحدى غرف المديرية والمعروفة بعلامة ” س “، التي كان يتردد عليها اينشاتين بين الفينة والأخرى لوضع بعض الملفات الساخنة، وكذا قضاء بعض الوقت للراحة .
ساعات قليلة على نشر الخبر، تم اعتقال اينشتاين واتهامه بسرقة الملف وتسليمه للصحافة. أثناء المحاكمة كان اينشتاين يصرخ بقوة : سيدي الرئيس أنا لا أتقن القراءة ولا الكتابة، أنا كنت مجرد حمال ملفات ذات لون أسود إلى الغرفة المعهودة.
أسبوع على محاكمته، سُمِعَ خبر ” انتحاره” في زنزانته المنفردة.
كاتب مغربي