منصف السليمي وبشراكة مع DW العربية
دفن رفات (جماحم) 24 مقاتل من رواد حرب التحرير الجزائرية بعد استعادتهم من المستعمر السابق فرنسا، في مقبرة العالية بالعاصمة حيث تدفن أهم شخصيات حرب الاستقلال، وسط أجواء مهيبة في ذكرى استقلال البلاد (سنة 1962)، الذي يصادف ايضا تاريخ استعمارها (عام 1830)، اعتبر في الجزائر كما في فرنسا “خطوة تاريخية”، لكنها لا تطوي صفحات التاريخ الأليم بين البلدين.
أحفاد هؤلاء الرواد وبعضهم تقدم به العمر لا يكادون يصدقون أنهم عاشوا ليشهدوا لحظة عودة رفات أجدادهم إلى أرض الجزائر بعد 170 عاما، أما الساسة الجزائريون فقد انبروا لرفع سقف مطالبهم إلى الدولة الفرنسية للاعتذار عن ماضيها الاستعماري وجرائم الحرب التي ارتكبت بحق البلد الذي يلقب بشهدائه المليون الذين سقطوا من أجل الاستقلال.
وليست الجزائر وحدها من يطالب فرنسا بخطوات مشابهة عن ماضيها الاستعماري، ففي الجارة تونس ارتفعت في السنوات القليلة الأخيرة الأصوات التي تطالب فرنسا بالاعتذار، ووصلت أصداؤها إلى قبة البرلمان.
وفي سياق عالمي ملتهب بالاحتجاجات حول العنصرية، إثر مقتل الشاب الأمريكي الأسود جورج فلويد، قد تتحول الخطوة التي قطعتها فرنسا نحو الجزائر، إلى مفعول الدومينو على سلسلة من الملفات والقضايا الشائكة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء.
فرنسا مطالبة باعتذار “كامل وليس نصف”
بالنسبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون فان نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون “رجل نزيه” يمكنه أن يواصل على نفس النهج ليقدم “اعتذارا كاملا” للجزائر بدل “نصف الاعتذار” الذي تحقق عبر إعادة جماجم 24 من مقاتلي حرب التحرير.
وقد أبدى الرئيس ماكرون منذ توليه الحكم قبل ثلاثة سنوات، إرادة واضحة بقطع بعض الخطوات في هذا الاتجاه. لكن المتتبعين لمسار تعامل الدولة الفرنسية مع هذا الملف الحساس، لا يتوقعون بأن تحدث خطوات دراماتيكية في فترة وجيزة. فقد جاءت الخطوة الحالية بعد عقدين من البداية التي أطلقها الرئيس الأسبق جاك شيراك الوريث السياسي للجنرال شارل دوغول الذي اعترف باستقلال الجزائر بعد أطول استعمار في القارة الأفريقية.
فقد كان شيراك أول رئيس فرنسي يبادر بخطوات رمزية لرد الاعتبار لبلدان المغرب مستعمرات فرنسا السابقة، حيث تم تدشين ساحة الملك محمد الخامس أمام مقر معهد العالم العربي بباريس. كما خطى شيراك أولى الخطوات في اتجاه الاعتذار -ولو بشكل متحفظ- للجزائر عن الماضي الاستعماري، واعترف بمسؤولية فرنسا في تهجير اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وأعقب ذلك إشارات في نفس الاتجاه من الرئيسين فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي نحو الجزائر وتونس.
ماكرون والاختبار الصعب
ومنذ بدايات حملته الانتخابية سنة 2017، أظهر الرئيس الشاب ماكرون، إشارات أكثر جرأة في هذا الملف الحساس من تاريخ فرنسا، حيث صرح بأن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية”.
وبعد عقدين من مبادرة فرنسا بتقديم تنازلات في هذا الملف، ظلت مواقفها تتسم بنوع من الازدواجية، فقد سُنَّ في عهد الرئيس شيراك قانون 23 فبراير شباط 2005، الذي ينص على “الطابع الايجابي” للاستعمار في الخارج، ويقر إدماج هذه الفكرة في برامج التعليم ومقررات التاريخ.
وبعد انتخابه رئيسا، دعا ماكرون إلى “ترميم الذاكرة” وإعادة بناء نظرة الأجيال التي ولدت في فرنسا وتنحدر من مستعمراتها السابقة. ولكن دعوته رُفضت، تحت وطأة ضغوط اليمين المتطرف الذي يرفض مضي فرنسا إلى حد الاعتذار عن استعمارها للجزائر والدول الأفريقية أو تقديم تعويض للضحايا، بل ويعتبر ان ذلك سيكون “سخيفا”.
ورغم الآفاق الواعدة التي تحملها الخطوة الفرنسية بإعادة جماجم المقاتلين الجزائريين، فان الرئيس ماكرون وعلى بعد 600 يوم من الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبحكومة جديدة تميل يمينا، يرجح أن يكون أكثر تحفظا في هذا الملف، خشية وقوعه تحت نيران اليمين المتطرف. فقد هاجمت مارين لوبان زعيمه حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، نهج الرئيس ماكرون.
وتسعى الزعيمة اليمينية لكسب أصوات فئات محافظة من الناخبين الفرنسيين وضمنهم، “أصحاب الأقدام السوداء” ورثة المستوطنين الفرنسيين الذين رحلوا عن الجزائر إثر استقلالها، وبقي عدد قليل منهم بالجزائر. وما تزال هذه الفئة تشكل حلقة تاريخية صعبة وقوة ضاغطة ضد مبادرات المصالحة التاريخية بين البلدين، التي تدفع نحوها أجيال من الفرنسيين وضمنهم جزائريون ولدوا في فرنسا، وقوى حقوقية ومفكرين ومؤرخين.
ماضي فرنسا الاستعماري جرح لم يندمل
ويطرح المسؤولون المتعاقبون في الجزائر على فرنسا تسوية ملفات عديدة من ماضيها الاستعماري وضمنها ملف “المفقودين” أثناء “ثورة التحرير” (1954-1962) ويفوق عددهم 2200 شخص بحسب الجزائر، بالإضافة إلى الملف الخاص بالتجارب النووية الفرنسية في الصحراء التي تتحدث مصادر عديدة عن أنها خلفت ضحايا وما تزال. وساهم ظهور الحراك الشعبي في الجزائر في الأشهر الأخيرة، في حدة طرح هذه الملفات بالإضافة إلى المطالبة بالاعتذار وحتى التعويض عن “جرائم الحرب”.
وإذا كان ترميم علاقات فرنسا مع الجزائر مهمة شاقة بحكم الطابع الخاص للاستعمار المباشر والطويل الأمد لهذا البلد والتراكمات الثقيلة التي خلفها، فان الوضع مع مستعمراتها السابقة الأخرى في شمال أفريقيا وغربها ليست بالضرورة سهلة، بل تزداد صعوبة لأسباب عديدة.. ففي بلد مثل تونس، ومنذ ثورتها سنة 2011، أصبحت العلاقات مع فرنسا موضوع جدل متواصل في الإعلام والطبقة السياسية، وصل في الآونة الأخيرة إلى قبة البرلمان عندما تقدمت كتلة “ائتلاف الكرامة” ذات التوجهات الثورية المحافظة، بمذكرة تطالب فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري للبلد.
ودخل الرئيس قيس سعيّد على خط هذا الجدل، ليدلي بتصريحات من باريس خلال زيارته لها قبل أسبوعين، قال فيها إن استعمار فرنسا لتونس كان ضمن نظام “حماية”(1881-1956) وليس احتلالا ويختلف عن الاستعمار المباشر الذي خضعت له الجزائر. وأثارت تلك التصريحات انتقادات مثقفين وأحزاب ومؤرخين. وسط دعوات لإعادة فتح الأرشيف وملفات اغتيالات ومذابح في زمن الاحتلال الفرنسي لتونس، ومن أبرزها قصة اغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد في الخامس من ديسمبر كانون الأول سنة 1952.
ففي مقابلة له مؤخرا مع قناة تلفزيونية فرنسية، هاجم الدكتور نور الدين حشاد نجل الزعيم حشاد، رؤساء فرنسا التسعة منذ تاريخ اغتيال والده، كما انتقد الطبقة السياسية في تونس، واتهمها بالتفريط في قضية اغتيال والده. وتمنى نجل حشاد الذي يبلغ من العمر 76 عاما، أن يعيش عمرا أطول ليرى قبل وفاته فرنسا وهي “تكشف الحقيقة وتعترف بجريمة اغتيال” والده.
أما في المغرب، الذي توجد به أكبر جالية فرنسية، يناهز عددها 50 ألف شخص، وتتسم علاقاته بعمق استراتيجي كبير، فان طرح ملف الحقبة الاستعمارية يجري في غالب الأحيان بنبرة أقل حدة. وكانت فرنسا قد أقدمت من جانبها سنة 2002 على تدشين ساحة باسم الملك الراحل محمد الخامس في موقع رمزي بقلب العاصمة باريس.
بيد أن ملفات عديدة تتعلق بالأرشيف والذاكرة وتعويضات عن مآسي الاستعمار وانتهاكاته الجسيمة وجرائم الحرب، تطرح من حين لآخر من قبل بعض الزعماء التاريخيين أو عبر من يطلق عليهم في المغرب بـ”قدماء جيش التحرير” من الاستعمار على غرار “هيئة المجاهدين” في الجزائر.
موقف دفاعي
وفي غضون الزخم العالمي ضد العنصرية، ارتفعت بعض أصوات المثقفين والكتاب في المغرب، تطالب بإزالة تمثال الماريشال ليوطي الذي ما يزال منتصبا في مقر القنصلية العامة الفرنسية بالدار البيضاء، وكان الماريشال ليوطي مقيما عاما لفرنسا بالمغرب في الحقبة الأولى من الاستعمار 1912- 1925.
لكن النقاش حول هذا الموضوع في المغرب سرعان ما يتحول إلى مستوى آخر، بالنسبة لقطاع من المثقفين والنخب المغربية الذين يرون في ليوطي كأحد رواد تحديث الإدارة والقوانين بالمغرب. ويمتد الأمر إلى ما بعد استقلال المغرب، حيث اعتمدت دولة الاستقلال على منظومات وقوانين موروثة عن الاستعمار الفرنسي.
وهنا يظهر كيف أن الحديث عن ماضي فرنسا في بلدان المغرب، يتسم بطابع معقد، كونه لا يتعلق فقط بحقبة معينة من التاريخ تتطلب إعادة قراءة لذاكرتها وخطوات معنوية أو حتى مادية لترميم مخلفاتها السلبية، بل يتداخل مع واقع علاقات متشابكة مع هذه البلدان على المستويات البشرية والثقافية واللغوية والاقتصادية والاستراتيجية.
وهنا تكمن صعوبة طي صفحات الماضي بالنسبة للجانبين، ففرنسا ما تزال تعتبر بلدان المغرب منطقة نفوذها الأولى في العالم، فهي بالإضافة بلدان غرب أفريقيا، أكثر مناطق العالم استخداما للغة الفرنسية، وهي الشريك التجاري الأول.
فمنذ العام الماضي احتدم النقاش في الجزائر إثر إعلان وزير التعليم العالي الاعتماد على اللغة الإنجليزية كلغة أولى في الجامعة، وهنالك مطالب بتعميم الفكرة على قطاعات التعليم الأخرى.
وفي المغرب، أثار قانون جديد لإصلاح التعليم صدر العام الماضي، وينص على استخدام اللغة الفرنسية لتدريس عدد من المواد، انتقادات ومطالب بإعطاءالأولوية للغتين العربية والأمازيغية وفق ما ينص عليه دستور البلاد. وتتداخل المسألة اللغوية في بلدان المغرب، من ناحية مع قضايا الهوية، ومن ناحية ثانية مع متطلبات مواكبة الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الحديثة.
ويرى مثقفون وخبراء بأن اللغة الفرنسية لم تعد تساير التطورات كما أن نفوذها في بلدان المنطقة يتم على حساب اللغة والهوية الوطنية. وحتى خصوم الثقافة الفرنسية من الإسلاميين والشعبويين والعروبيين، يجدون في هذه الحجج مادة ملائمة لتوظيفها في حملاتهم ضد النفوذ الفرنسي.
لكن فرنسا والمدافعين عن مكانة اللغة الفرنسية في بلدان المغرب لا يقتصرون على الاعتبارات الثقافية واللسانية، في ردودهم على خصوم “الفرنكوفونية”، بل يعتمدون على شبكات تأثير واسعة وأجيال من النخب النافذة في دواليب الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام.
ومن هنا يبدو طرح المسائل التاريخية واللغوية والثقافية في العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، غير منفصل عن مكانة فرنسا ونفوذها في بلدان المنطقة. ففرنسا ما تزال الشريك التجاري والاقتصادي الأول لهذه البلدان، وما يزال النفوذ الفرنسي عاملا أساسيا في استقرار وأمن أي حاكم بعواصم المغرب. لكن المنافسة الشرسة التي تتعرض لها فرنسا على الأصعدة الاقتصادية والتكنولوجية من قبل شركائها الأوروبيين مثل إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، بالإضافة إلى منافسين عالميين: الصين والولايات المتحدة وتركيا، تضعها في موقف دفاعي.
من يخلص فرنسا من ماضيها الاستعماري؟
وقد حاولت باريس منذ فترة حكم الرئيس فرانسوا هولاند مراجعة منظومة تعاونها مع الدول الأفريقية وإعادة هيكلة منظمة الفرنكوفونية التي تضم في عضويتها الدول الناطقة بالفرنسية أي عمليّا مستعمرات فرنسا السابقة، باتجاه احتواء الضغط المتزايد عليها.
بيد أن تجدد طرح إشكاليات الإرث الاستعماري يهدد النفوذ الاستراتيجي الفرنسي، كما يهدد مكانتها كبلد رائد في قيم حقوق الانسان والحرية. ولذلك فان مؤرخين ومثقفين فرنسيين بارزين مثل المؤرخ بنجامين ستورا يرى في الخطوة التي أقدمت عليها فرنسا بإعادة جماجم المقاتلين الجزائريين، خطوة إيجابية في إطار “تسريع مسار مراجعة الذاكرة الفرنسية”.
ففي حوار له مع صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية بتاريخ 4 يوليو تموز2020، اعتبر بنجامين ستورا المؤرخ المتخصص في الجزائر، أن إعادة جماجم المقاتلين الجزائريين، تأتي في إطار “سياسة إرادية تنتهجها فرنسا في السنوات الأخيرة، ونتيجة تأثير حركات إجتماعية تُسائل ماضينا الاستعماري”. كما تأتي في سياق عالمي يتجه إلى مراجعات واسعة للماضي الاستعماري.
ومن يتابع تطورات علاقات عواصم المغرب بباريس، يمكنه أن يرصد أن أكثر الملفات الشائكة في العلاقات وخصوصا ما يتعلق منها بالماضي الاستعماري ومخلفاته، لا تُدار فقط بمنطق متطلبات التاريخ والحقوق والقيم، بل تخضع في جانب كبير منها للمصالح المتبادلة بين النخب الحاكمة في بلدان المغرب وفرنسا من ناحية، ولحسابات استراتيجية وموقع المنطقة المغاربية كخاصرة لأوروبا.
فهل تحتاج فرنسا إلى مزيد من السنوات كي تجد زعيما بحجم شارل دوغول أو حتى جاك شيراك يمكنه أن يستخدم البصيرة والكاريزما للإقدام على خطوات تاريخية حاسمة تقطع مع ماضي البلد الاستعماري، أم ان الأجيال الجديدة التي ولدت في فرنسا ولم تعش زمن الاستعمار قادرة على التخلص من تركته الثقيلة؟