سعيد الكحل
أصدر المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، في ختام لقائه السنوي، أيام 21 و22 و23 يوليوز 2023، بلاغا يعكس موقف الحركة من القضايا ذات الأولوية بالنسبة إليه؛ ويتعلق الأمر أساسا بـ: تعديل مدونة الأحوال الشخصية، قضية الوحدة الترابية، القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع ثم حرق المصحف الشريف.
فلسطين أهم من الداخلة والعيون
على الرغم من كون قضية فلسطين تم إدراجها بعد قضية الوحدة الترابية ضمن القضايا التي تطرق إليها البلاغ، إلا أنها نالت القسط الأكبر مقارنة مع قضية الوحدة الترابية التي تمثل قضية المغاربة الأولى. ذلك أن البلاغ خصص 12 عشر سطرا للقضية الفلسطينية مقابل 5 أسطر للقضية الوطنية. فضلا عن هذا، فقد وردت كلمتا: فلسطين وفلسطيني 9 مرات، بينما لم ترد كلمة الصحراء المغربية سوى4 مرات، فيما وردت خمس مرات عبارة الوحدة الترابية.كما استحوذت القضية الفلسطينية على جوهر البلاغ والرسائل المتضمنة فيه وكذا المواقف المعلنة من استئناف وتطوير العلاقات مع إسرائيل.
بخصوص القضية الوطنية اكتفى البلاغ بالتعبير عن تتبع حركة التوحيد والإصلاح لتطورات قضية وحدتنا الترابية، والتأكيد على مواقفها الثابتة من مغربية الصحراء، ثم التنديد بالمؤامرات التي تحاك ضدها، مع رفض جعلها موضوع ابتزاز أو مساومة. لكن حين تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فإن المكتب التنفيذي للحركة توجه “بالتحية والتقدير للمقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية في كافة الأراضي الفلسطينية”، ثم إدانة “جرائم العدو الصهيوني”، ورفض التطبيع مع الدعوة إلى إلغاء التطبيع وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
إن الدفاع عن القضية للفلسطينية مسألة تهم كل المغاربية، لكن إعطاءها الأولوية على حساب القضية الوطنية مسألة لا تستقيم مع الشعور الوطني لعموم المغاربة. ذلك أن التوجه “بالتحية والتقدير للمقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية” واستثناء وحدات الجيش المغربي المرابطة على الحدود للدفاع عن الوحدة الترابية والتصدي، بكل حزم لمخططات الانفصاليين وداعميهم، ليس له من تفسير سوى جعل فلسطين أهم من وحدة المغرب الترابية. فالبلاغ لا يستحضر الدماء الزكية التي سقت أرض الصحراء، ولا الأرواح الطاهرة التي قدمها شهداء الوطن فداء لوحدته واستقراره، كما لا يعير أدنى اعتبار للجهود الجبارة التي تبذلها القوات المسلحة الملكية لصد الأعادي وتأمين الحدود. إذ كان الأجدر بقيادة حركة التوحيد والإصلاح أن تنوه بتضحيات جنودنا البواسل من أجل الوطن ووحدته الترابية.إن ما ينعم به المغرب من أمن وأمان، فالفضل فيه يرجع إلى العيون الساهرة على امتداد الحدود وفي كل بقعة من أرض الوطن.
لقد شكّل الجيش المغربي تلك الصخرة الصامدة التي تحطمت عليها كل مخططات أعداء الوطن والمتآمرين على وحدته وأمنه.للأسف لم تشغل محرري البلاغ ولا قيادة الحركة حجم المخاطر والمؤامرات التي تُحاك ضد المغرب وتستهدف أمنه ووحدة شعبه وترابه، قدر انشغالهم بتضحيات الفلسطينيين. لهذا استرخصوا تضحيات الجنود المغاربة وتجاهلوا المعارك والبطولات التي خاضها الأبطال ببسالة وشرف ظلت محفورة في ذاكرة الشعب المغربي ووجدانه. ومن المفارقات التي تعكس ذات الخلفية المتماهية مع قضايا الشرق ورموزه، أن مسؤولي حزب العدالة والتنمية في المجالس الترابية أطلقوا أسماء لرموز فلسطينية على كثير من الشوارع بينما أسقطوا، عمدا، أسماء شهداء الوطن الذين تصدوا، بكل بطولة وشهامة، لأعداء الوطن.
فهؤلاء المسؤولون البيجيديون حرصوا، يوم كانوا في رئاسة تلك المجالس الترابية، على حفظ رموز النضال الفلسطيني المنتمين للتيار الإسلامي، على عكس اهتمام باقي مسؤولي المجالس بالذاكرة الوطنية عبر إطلاق أسماء المعارك البطولية التي خاضها الجنود المغاربة على امتداد الأقاليم الصحراوية المسترجعة، على ساحات المدن حتى تظل على لسان الأجيال تحكي فصول الانتصارات العظيمة وتذكّر الغافلين والمتغافلين بغدر الجيران ومؤامراتهم الخبيثة.
إن الدفاع عن الوحدة الترابية يتطلب أكثر من إعلان البلاغ عن عدالة قضيتنا الوطنية والتنديد ” بكل الاستهدافات والمؤامرات التي تحاك ضد وحدتنا الترابية”. فالدولة المغربية لا تطلب من الأحزاب عموما حمل السلاح والمرابطة في التخوم، وإنما تنتظر من كل الهيئات السياسية والمدنية تغليب المصلحة العليا للوطن على المصالح الحزبية الضيقة والحسابات السياسوية المقيتة، والانخراط في التعبئة العامة من أجل دعم جهود الدولة العسكرية والدبلوماسية في الدفاع عن قضيتنا الوطنية. ذلك أن العدوان الخارجي لن تردعه بيانات التنديد أو بلاغات الإدانة، بقدر ما تدحره الأسلحة المتطورة والخطط الدقيقة والدعم الأممي في المحافل الدولية صانعة القرار. ولا سبيل لامتلاك عناصر القوة العسكرية التي من شأنها حسم المعارك قبل بدايتها، أو توفير الدعم الدبلوماسي الدولي لفائدة المغرب ووحدته الترابية إلا بالتحالف مع من يضمن للمغرب تفوقه العسكري وانتصاراته الدبلوماسية.
نفوذ الدول يقاس بمسافة نيران مدافعها
اختار المغرب أن يحدد حلفاءه وفق ما تمليه عليه مصالحه العليا. وكما قال ونستون تشرشل “نفوذ الدول يقاس بمسافة نيران مدافعها”. فمسافة نيران المدافع هي التي تحسم الصراع وتردع الأعداء وتنهي الابتزاز. لهذا لا يدخر المغرب جهدا في تطوير قدراته العسكرية وبناء تحالفات تمكّنه من توطين الصناعات الحربية الدقيقة وامتلاك الأسلحة الرادعة التي من شأنها أن تجعل أعداءه يحسبون له ألف حساب. ولعل شعار “تازة قبل غزة” الذي ظل المغاربة يرفعونه في كل المناسبات، دليل قاطع على كون الشعب المغربي حسم اختياراته ورتّب أولوياته بما تقتضيه المصلحة العليا للوطن. في هذا الإطار كان الترحيب الكبير من عموم فئات الشعب المغربي بإعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، لأنه يدرك جيدا أهمية الدعم الأمريكي والإسرائيلي للمغرب ديبلوماسيا في المحافل الدولية، وعسكريا بتمكينه من امتلاك الأسلحة المتطورة لمواجهة المؤامرات العدوانية. إذ لا تكفي عدالة القضية لحسمها دبلوماسيا وعسكريا، بل لا بد من التوفر على عناصر الدعم والقوة، خصوصا وأن أعداء المغرب جعلوا من معاداته عقيدة ثابتة لهم.
ظلم ذوي القربى
على امتداد عقود والمغرب يمد يد الدعم بكل اشكاله للقضية الفلسطينية ويقوي صمود المقدسيين في وجه مخططات التهويد والتهجير. ويمثل المغرب البلد الوحيد الذي ظل ملتزما بتمويل وكالة بيت مال القدس الشريف التي تأسست بمبادرة من الملك الحسن الثاني رحمه الله. فالمغرب لا يمنّ على الفلسطينيين دعمه لكن لم يكن يتوقع من مسؤولين منهم التحالف مع خصوم وأعداء وحدته الترابية. وبدل أن يشدد بلاغ حركة التوحيد والإصلاح تنديده بتصريحات أولئك المسؤولين، وآخرها تصريحات وزير الرياضة الفلسطيني وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، جبريل رجوب، لوسائل الإعلام الجزائرية التي أنكر فيها مغربية الصحراء، ركز على الدعوة إلى”التراجع عن مسار التطبيع وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني”. وليس غريبا على قيادة الحركة التغاضي عن تصريحات الرجوب وغيره من المسؤولين الفلسطينيين، ما دامت تضع الوحدة الترابية خارج اهتماماتها. تلك هي العادة المتأصلة في إسلاميي المغرب عموما، وإسلاميي البيجيدي وحركة التوحيد والإصلاح خصوصا. هكذا سبق للأمانة العامة للبيجيدي أن هاجمت، مجانا، وزير الخارجية المغربي”تستهجن الأمانة العامة المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية”، بينما لم يصدر عنها أدنى تنديد بتصريحات الرجوب، أو تراسل القيادة الفلسطينية، سواء في الضفة أو في غزة، بتوضيح موقفها من قضيتنا الوطنية. إنه لأمر ينبغي أن يكون مخجلا للإسلاميين أن إسرائيل تعترف بمغربية الصحراء بينما يتنكر لها الفلسطينيون. صدق الشاعر العربي المتنبي في قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته // وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
إن أي دولة تحترم نفسها وشعبها وتاريخها، ستعمل بالمبدأ الذي أعلنه تشرشل “أنا مستعد أن أتحالف مع الشيطان من أجل بلادي”.