حاورتها : أمال مديد
تمكنت المرأة المغربية من كسر هيمنة الرجال على كافة الميادين في الحياة العملية، على الصعيد الوطني والعالمي، بعد أن أبانت عن علو كعبها وتألقها في مجالات عديدة أدبية وعلمية، ما سمح لها بفرض نفسها كشريك للرجل ومنافس قوي له متحدية بذلك كل العراقيل والصعوبات التي تواجهها.وهو ما جعلها تحظى بمكانة كبيرة مكنتها من ضرب وتغيير الصورة النمطية التي كانت تحصر فيها من قبل المجتمع. رحلة كفاح ومثابرة تلك التي تقطعها نساء المملكة المغربية في بلدان المهجر، لشق طريقهن نحو التألق بخطوات ثابتة اعتمادا على كفاءتهن.
في هذه السلسلة التي تفتحها جريدة 24 ساعة الإلكترونية بشراكة مع “مجلس الجالية المغربية بالخارج” اخترنا لها عنوانا بارزا “الهجرة..إسم مؤنث”، سنحاول سرد حكايات نساء مغربيات على لسانهن، تألقن وحققن إنجازات جديرة بالتنويه، وطبعن على مسارات مهنية متفردة ،من خلال محاورة ضيفات مغربيات من أرض المهجر. في هذه الحلقة نحط الرحال ببلجيكا مع المغربية كوثر بوبكار، مهندسة وخبيرة في مجال النانوتكنولوجيا، مثال حي للنساء اللواتي تكبدن عناء الرحلة، ما مكنها من الولوج إلى أشهر مراكز الأبحاث والشركات التي تعنى بمجال التكنولوجيا.
أولا لنتحدث عن كوثر بوبكار من تكون ؟
كوثر بوبكار، من مواليد 8 مارس 1979، بالرباط، حيث درست إلى أن تخرجت كمهندسة دولة في الاتصالات من معهد البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، قبل أننطلق بعدها مساري المهني في التصميم الفيزيائي للرقاقات الإلكترونية، حيث أشتغل الآن كخبيرة في هذا المجال بأحد مراكز الأبحاث المرموقة ببلجيكا.
كيف كان مساركم الدراسي وكيف وقع الاختيار على تخصصكم ؟
كانت ميولاتي تتأرجح بين العلوم والفلسفة منذ الصغر لأسباب أسرية، ذلك لأن والداي كانا من عشاق القراءة والنقاش حول المواضيع الفكرية، فاخترت التوجه نحو شعبة العلوم الرياضية بثانوية مولاي يوسف بالرباط، وهي الشعبة التي كانت تضم كافة إناث المؤسسة، لألج بعدها الأقسام التحضيرية بنفس الثانوية، قبل أن ألتحق بمعهد البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، الذي كان يعتبر حينها من أبرز معاهد تكوين المهندسين في المجال، وكان التخرج منه يفتح افاقا مهنية على الصعيد العالمي.
هل كانت الهجرة اختيارا أم محض صدفة ؟
من المؤكد أنها كانت اختيارا أملته ظروف ذاتية وموضوعية، وكانت أهم حوافزه الرغبة في اكتساب تجارب حياتية ومهنية جديدة وتطوير الخبرة في محيط أكثر تنافسية والانفتاح على أفق أرحب.وأود الإشارة إلى أن مجال البحث والتطوير في العالم قرية صغيرة، إذ من الممكن أن نجد فرقا من مختلف الدول تشتغل على نفس المشروع، إذا فمن الممكن أن أٌقول بأن الرغبة في الاندماج عن قرب في هذه الفرق المختلفة والتعرف أكثر على طرق اشتغالها واكتساب مهارات تقنية جديدة منها كان الحافز الأكبر للهجرة.
أقمتم بعدد من الدول الأجنبية، حدثونا عن مساركم بهاته الدول، ولماذا وقع الاختيار على الاستقرار في بلجيكا؟
قادتني الرحلة إلى بلدان عديدة، سواء التي أقمت بها فترات طويلة أو قصيرة، كانت الإنطلاقة من فرنسا، مرورا بالصين، اسكتلندا، بريطانيا، ايرلندا، ووصولا إلى بلجيكا حيث أستقر اليوم. وكان العامل المحدد لهذه التنقلات هو طبيعة المشاريع التي اشتغل عليها والفرص المتاحة، هذا بالإضافة إلى الشغف بالاشتغال على تجارب وتقنيات جديدة في شركات عالمية تعتبر رائدة تكنولوجيا في مجالها.
علاوة على ذلك، فإن حالتي العائلية أملت ضرورة الاستقرار في بلد معين، ذلك لكوني متزوجة وأم لثلاثة أطفال، فوقع الاختيارعلى بلجيكا، وهو الاختيار الذي حددته عوامل عديدة كان على أبرزها تواجد مركز الأبحاث “IMEC ” بها، وهو المركز الذي يعتبر رائدا عالميا في مجال النانوتكنولوجيا، ومرجعا في بعض التقنيات والابتكارات، هذا بالإضافة إلى عومل ترتبط أساسا بجودة التعليم والصحة والمناخ أيضا.
لنتحدث عن الصعوبات التي واجهتموها في كل بلد اشتغلتم او قطنتم به؟
في الواقع، ذاكرتي انتقائية ولا تحتفظ بالصعوبات بقدر ما تتذكر النجاحات ولحظات الفرح الكبير حين تقبل ورقة علمية ساهمت في كتابتها، او تنجح رقاقة ساهمت في تصميمها. لكن الأكيد أنه كانت هنالك صعوبات ترتبط بطبيعة البلد الذي اشتغل فيه وطبيعة العلاقات المهنية والإنسانية به، وأحيانا حتى الطبيعة الإدارية أو المناخ الذي يقتضي تأقلم الجسم معه، فمثلا التأقلم مع مناخ دولة اسكندنافية ليس سهلا.
أما من الناحية المهنية، فهنالك عوامل ترتبط أحيانا بالشركة أو المجتمع المحيط، فمثلا بعض المشاريع كانت تتطلب وتيرة اشتغال لا تسمح لي برؤية أطفالي لأسابيع متتالية مع أننا نقيم بنفس المنزل، وهذا قد يكون مستنزفا من الناحية الجسدية والنفسية. كما أن هنالك دول لا يتم فيها التواصل المهني بشكل مباشر ومفتوح مثل الصين مثلا، حيث لا زالت ثقافة حفظ ماء الوجه سائدة ويتحرج بعض الصينيين أحيانا من قول لا بطريقة مباشرة، وهو ما قد يخلق لبسا في التواصل ويتطلب بذل مجهود أكبر من أجل التواصل بشكل فعال. وفي نفس الوقت، هنالك بلدان أخرى مثل ألمانيا وبلجيكا، حيث الحديث الصريح والمباشر يعتبر أساس التواصل المهني ويتطلب وضع أي حساسية منه جانبا.ذ
لنتحدث عن الصعوبات المرتبة بالجانب الأسري كيف تعامتم معاها ؟
فعلاً ،وهناك صعوبات لا ترتبط بالجانب المهني بقدر ما ترتبط بالجانب الأسري، فمثلا إرلاندا لا تتوفر على سياسات لتشجيع المرأة على العمل من خلال توفير حضانات ومؤسسات لرعاية الأطفال خلال أوقات العمل، واللجوء إلى مربية خاصة قد يكلف المرأة العاملة الجزء الأكبر من دخلها. وقد حدث أن غادرت بعض الدول لأسباب مرتبطة بجودة وتكلفة التعليم أو الخدمات الصحية بها، فمثلا على سبيل المثال غادرت الصين لاسباب صحية مرتبطة بالثلوث.
لكن بالمقابل، ساعدتني هذه التنقلات كثيرا على الانفتاح على الآخرين من خلال تنوع الثقافات والعادات، ما يتطلب اندماج المهاجرين في المجتمع المستقبل، إذا فإن هذه المحاولة قادتني إلى التعرف على ثقافات وتاريخ و فنون رؤى جديدة، مما يساعد على تطوير القدرة على الابداع والتفكير خارج الصندوق، وكذا الخروج من النمطية والأحكام المسبقة، وإتقان فن الإنصات.
ماذا عن الاندماج وصدام الثقافات؟ هل كان الاندماج في هذه المجتمعات سريع أم تطلب منكم بعض الوقت، وهل أفقدكم هذا الاندماج بعض الطبائع أو العادات المغربية؟
في الواقع، لم أواجه صعوبات كبيرة في الاندماج، فعلى الرغم من كوني امرأة مغربية ومن خلفية ثقافية معينة، فإني لم أعاني في حياتي المهنية من العنصرية سواء تعلق الأمر بالعنصرية تجاه الأصول أو الجنس، إلا أن الحياة المهنية قد تجعلك تواجه أشخاص يقومون بالتمييز، لكنهم لا يستهدفونك لأسباب عنصرية بقدر ما يكون الأمر متعلقا بأسلوب تعامل ينهجونه مع الجميع، وأعتقد بأن اشتغالي في مجال منفتح عالميا يعطي أولوية للكفاءة ويحتضن خبراء بمستويات أكاديمية عليا قد ساهم في اندماجي بهذه المجتمعات والدول.
أكبد بأن كل دول العالم تشهد تصاعد العنصرية، لكن أظن بأن الانطلاق من مبدأ احترام الآخر واحترام وجهات النظر وعدم فرض الأفكار على الآخرين أو ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة قد يساهم في تفادي هذه الصدامات. لأنه وبناء على تجربتي الشخصية، فإن العامة في مختلف المجتمعات لا يفرضون عليك طريقة عيش معينة بقدر ما يطالبونك باحترام ثقافتهم و طريقة عيشهم وعدم فرض رؤيتك عليهم.
نفس الأمر ينطبق على أطفالي أيضا، فقد عاشوا في عدة دول مختلفة اللغات والثقافات، وتعلموا أفكارا كثيرة ويتحدثون بلغات مختلفة. ورغم غيابهم عن المغرب إلا أن بداخلهن فضول كبير للتعرف على تاريخه، إلى جانب ارتباطهن واهتمامهن بثقافته خاصة المطبخ المغربي واللباس التقليدي المغربي، فمثلا بناتي يعشقن ارتداء القفطان المغربي والتباهي به في حفلاتهم المدرسية، و يطلبن دائما أن أعد وجبات مغربية لهذه الحفلات رغم أنهن يحملن جنسية ثانية.
لنتحدث عن الاندماج اليوم الذي تؤطره توجه ايديولوجي كيف عشت التجربة ؟
إذا، يمكنني القول بأنني حينما أتأمل مساري اليوم، أجد بأن مشكل الاندماج لا يقتصرعلى الهجرة ، فمثلا في المغرب بحكم انتمائي لأسرة تؤمن بالحوار الفكري و تقبل الآخر، ومساري الدراسي الذي خالطت فيه تلاميذ و طلبة متعطشين للمعرفة ومنفتحين على العالم ومتقبلين للثقافات، وجدت نفسي فجأة بعد تخرجي في وسط أكبر يشمل من يعتقد امتلاك الحقيقة المطلقة ويلزم بها الاخر، ويسمح لنفسه بإصدار أحكام مسبقة فقط لانه يختلف معك في الرأي أوالتفكير، فأظن بأن الاندماج اليوم يؤطره التوجه الايديولوجي للأشخاص، و الإحساس الهوياتي المتصاعد الذي قد يقترن بانتماء ديني أو لغوي أو عقدي او إيديولوجي قبل الانتماء للوطن فقط، فقد تجد في الأسرة الواحدة أشخاصا بتوجهات مختلفة تولد صراعات حادة، يبحثون عن الاندماج في مجموعات افتراضية تتماهى وقناعاتهم أكثر من الاندماج في محيطهم.
هل ستفكرون يوما ما، في العودة إلى المغرب وتقديم خبرتكم لوطنكم ؟
بداية، الهوية المغربية شيء يصعب الإبتعاد عنه، والاهتمام بالوطن يسكنني ربما بشكل شاق و شقي، ففكرة العودة إلى المغرب ليست مستحيلة، لكنها مستبعدة حاليا، ذلك لأن أطفالي في سن التمدرس، وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو أنهن درسن لسنوات في دول مختلفة بلغات مختلفة، والاستقرار أمر ضروري لتربيتهن وتعليمهن بشكل جيد، هذا بالإضافة إلى أنني حديثة الالتحاق بمركز الأبحاث “IMEC “، وبالتالي فإن فكرة العودة لأرض الوطن غير مطروحة في الوقت الحالي، لكنها غير مستبعدة على المدى البعيد.
أما مسألة ضمان المغرب لظروف اشتغال مناسبة، فقد غادرت المغرب منذ مدة طويلة وهو ما لا يتيح لي إمكانية الإجابة عن هذا السؤال، لكن يمكنني القول بأنني شهدت تحفظ أناس كثيرين ممن غادروا المغرب على هذه المسألة، وفي نفس الوقت، يبدو تحمس البعض الآخر لفكرة العودة إلى أرض الوطن ملحوظا، وهو ما يجعل الحسم في هذه المسألة صعبا بالنسبة لي.
لكن أعتقد بأن ظروف الاشتغال في البحث والتطوير بالمغرب لن ترقى لما هو الحال عليه في مركز ” IMEC” لأسباب مختلفة أبرزها ضرورة ضخ استثمارات كبيرة في المجال والقدرة على جلب كفاءات عالمية برواتب مغرية، وهو ما لا تسمح ميزانية المغرب بفعله خاصة مع ظرفية الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.
كيف تنظرون للمغرب اليوم ؟
أعتقد أبأن المغرب حقق بعض الخطوات الهامة في مساره نحو التطور ولا يزال أمامه الكثير، هنالك إرادة سياسية من أجل التحديث -ظاهريا على الأقل-، لكن من المرجح بأن هنالك تضاربا في المصالح يمنع هذه الإرادة من التحقق بالشكل المنشود على أرض الواقع. والأكيد هو أن المغرب يعج بالكفاءات، لكن أغلبها ابتعد عن الشأن العام لبطء وتيرة التغيير، وأعتبر، بأنه قد أصبح من الضروري اليوم خروج الكفاءات عن صمتها والمساهمة ولو بجزء بسيط في بناء وعي جماعي، لأن غيابها ترك الباب مفتوحا على مصراعيه لتنامي التيارات الشعبوية وتكاثر الظواهر الصوتية وتجار الوهم ذوي المصالح الشخصية.
لذا يكمن الحل –من وجهة نظري- في التأسيس لعقل نقدي جماعي لتجاوز معيقات التنمية وبناء مجتمع المعرفة، وإعطاء الأهمية للجيل الصاعد، كما أنه من الضروري أيضا أن يتم الربط بين الطموحات الفردية والجماعية، وأن يصبح الفرد ضمن الجماعة، يتطور ضمنها ومعها ومن خلالها ويحافظ في نفس الوقت على فردانيته المميزة التي هي أساس كل ابداع. للأسف نحن لانزال في مجتمع مرهون بالقطبية في التفكير والتقسيمات الإيديولوجية المتجاوزة، لذا لابد من الوقوف مع الذات وانتقادها بصدق، كما أنه يعتبر لزاما على كل فرد منا أن يتحمل نصيبه من المسؤولية الجماعية.
كيف ذلك ؟
سأعطيك فكرة بسيطة، تمثل الحل هنا في الاختيار الديمقراطي، الذي وإن كان يحظى تقريبا بالإجماع لدى مختلف مكونات المجتمع، إلا أنه لا يركز على التشبع بفكر ديمقراطي في أسرنا وتشكيلاتنا المهنية، فالاغلبية لا تزال تؤمن بمجتمع عمودي، لأنها لا تريد تحمل المسؤولية ولو في قرارات بسيطة، في حين أن الديمقراطية لا يمكن ان تبنى بالاتكالية أو أن تختزل في عملية اقتراع أو في صناديق الانتخاب، هي تتطلب التوفر على عقل نقدي يجعل المواطن قوة اقتراحية ورقابية، ويجعله قادرا على تحمل مسؤوليته كفرد في بناء الغد.
هل نظرتكم للمغرب اليوم هي نفس النظرة أم أن الهجرة غيرت رؤيتكم؟
الثابت في الحياة هو التغير، رؤيتي لجميع الأشياء تغيرت مع انفتاحي على تجارب أخرى، ففي الماضي كنت أؤمن بأن التغيير لابد أن يكون عموديا، وأن المؤسسات وحدها كفيلة بتحقيق ذلك، لكن اليوم، أصبحت أتبنى قناعة راسخة مفادها أن الفئات الشعبية تطالب بالديمقراطية وبمجتمع أفقي، لكنها لا تقوم بواجبها من أجل تكوين هذا المجتمع ولا بدورها في المواطنة الديمقراطية.
اليوم أعتقد أن التطور هو مسؤولية مشتركة بين المؤسسات والأفراد، وعلى المجتمع بأكمله الاندماج في هذا المسار وتحمل كل طرف لمسؤوليته، إضافة إلى القيام بدوره الكامل، كتغيير السلوك والإخلاص في العمل بشكل أكبر، تربية الاطفال بشكل افضل، البحث عن مخارج لأزمتنا الجماعية، والانخراط في ممارسة سياسية ومدنية فعالة. هذا إلى جانب عدم التحرج من طرح السؤال عن نوع الديمقراطية التي تناسبنا، خاصة بالنظر إلى الوضع العالمي بعد جائجة كورونا. خلاصة القول، إن التطور بناء جماعي لا يمكن أن يتم إلا إذا تحمل كل طرف مسؤوليته ومسؤولية قراراته.