لا جَرَمَ أن وباء “كورونا” الذي اجتاح العالم عرّى عن مجموعة من النقائص التي تعرفها الدولة المغربية على مستوى الصحة والتعليم والاقتصاد والإعلام وغيرها، ومع ذلك فإنها تعاملت بحكمة بالغة مع هذا الوباء، خاصة إعلانها الحجر الصحي في وقت مبكر، مع إطلاقها لحزمة من التدابير الاجتماعية للتخفيف من وطأة تكاليف الحجر الصحي على المواطنين، فضلا عن إحداث “صندوق تدبير جائحة كورونا” الذي أعلن عنه جلالة الملك محمد السادس، وتجاوبت معه القوى الحية في البلاد من مؤسسات وأفراد.
إلا أن الناظر الحصيف لما طرأ في المجتمع المغربي من خوف وهول واستهزاء وسخرية من هذا الفيروس، يرى جسامة الخلل العقدي الذي يسري في غالبية المجتمع، من حيث الإيمان بالقضاء والقدر، كما يبصر التخلف الفكري والثقافي الذي يعيش في عقول فئة عريضة من هذا المجتمع، مما يدعونا إلى أن نتساءل: هل الدولة المغربية تستحضر خطورة هذا الخلل العقدي والفكري في برامجها الإصلاحية التنموية؟ ألم يأن للمجتمع المغربي أن يترفع عن جهله العقدي والفكري بعد هذا الابتلاء؟ هل سيتحقق التغيير الذي يطمح إليه جل المغاربة بعد كورونا؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لابد من تحديد المقصود بالإصلاح العقدي، لأنه يكتسي أهمية خاصة في المغرب، بسبب مجموعة من التحولات المعاصرة والبرامج الإصلاحية التي تعرفها المملكة، أهمها مشروع “النموذج التنموي الجديد”، وهو ما أظهرته جائحة كورونا من خلال التصرفات المنحرفة وغير المنضبطة. لذلك فإن المقصود بالإصلاح العقدي هو قولنا: “إصلاح كل ما من شأنه أن يفسد التصور العقدي الصحيح للإنسان، وتقويم الانحرافات السلوكية الناتجة عن عدم التصديق الجازم بالقلب للحقائق العلمية وتوجيهها”.
إذا أمعنا النظر في هذا التعريف نجد أنه يتضمن المقصود بالإصلاح العقدي من حيث جوهره، وذلك من خلال وظيفتين:
أ- إصلاح التصور العقدي الصحيح للإنسان: وهذا يحصل بتصحيح النظرة العامة إلى الوجود التي يأخذ بها الإنسان ويعتقد بحقائقها، لأنها “هي الأصل التي تنبثق منه جميع نظراته الفكرية واتجاهاته السلوكية، وهي المحرك لأفكاره وسلوكه، وهي أساس اختلاف الحضارات والثقافات”(1). وهي الوظيفة الأولى التي جاءت بها الرسالات السماوية جميعا، حيث إن من إعادة ترتيب التصورات العقدية عن الله والكون والحياة وبنائها انطلق الأنبياء والرسل في تغيير واقع مجتمعاتهم التي ظهروا فيها وإصلاح أحوالها.
ب- تقويم الانحرافات السلوكية وتوجيهها: ذلك أن أولى بذور الانحراف وأخطرها على الإطلاق هو الاختلال في المنظومة العقدية، لأن آثارها وخيمة على النفس والفكر والسلوك والعلاقات، ويصاب المجتمع بالفتور والاضطراب، لذلك يعد إصلاحها الأرضية الصلبة التي تشاد عليها صروح الرقي الفكري والروحي والأخلاقي والعمراني كلها، وتنطلق مسيرة الإنسان نحو التوافق النفسي، والانسجام الاجتماعي في الحياة.
بعد هذا البيان لمفهوم الإصلاح العقدي يتضح جليا الأهمية التي يحظى بها، وذلك باعتباره المنطلق الأساس في المشروع الإصلاحي التغييري للإنسان بصفة عامة، والمجتمع المغربي بصفة خاصة، لذلك يعد هدفا استراتيجيا ومحوريا تنبني عليه جميع سياسات المجتمع وتوجهاته. ذلك أن الإصلاح العقدي هو ركيزة جميع الإصلاحات وعمدتها، إذ لا يمكن أن يحدث في حياة المجتمع المغربي انتعاش وتغيير معتبر إلا بإصلاح عقدي يقع في النفوس موقع الدفع إلى العمل الصالح المعمر في الأرض والمنمي للحياة.
لقد كشفت جائحة “كورونا” عن مكمن الخلل الذي يعيق مسيرة الإصلاح والتغيير وبناء الإنسان الفكري والروحي والأخلاقي والعمراني، وهذا من التحديات الجسيمة التي عانى منها الفكر الإصلاحي بالمغرب قديما وحديثا وآنا.
من أجل ذلك، فالمغرب مطالب اليوم بتغيير جذري في النظام التربوي وفلسفته وأساليبه وأهدافه، لأن حاجة مجتمعنا تشتد إلى التربية كأساس للتغيير، باعتبار أن الإنسان هو أداة المعالجة ومحلها في الوقت نفسه؛ ولا شك أن إعادة تشكيل الإنسان تحتاج إلى عمر طويل، ومعالجات شتى ومتنوعة، لأنها عملية من أصعب الأمور وأكثرها تعقيدا وتشابكا، نظرا لطبيعة الإنسان، والعوامل المعقدة التي تتحكم بشخصيته، والهدف من ذلك هو تقوية الإرادة للفرد وإعادة الروح والدفع السلوكي الفعال، الذي يهيئه للإصلاح وإحداث التغيير.
وهذه العملية ذات أبعاد متعددة، يشارك فيها التعليم والإعلام والشؤون الإسلامية، وتتحكم فيها كل الموارد الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية مجتمعة وفق رؤية شمولية منضبطة، إذ لا يمكن أن يتصور الإصلاح والتصويب في جانب بمعزل عن بقية الجوانب الأخرى المؤثرة.
هذا وإن مسألة التغيير في طبيعتها تتشكل من أفكار وممارسات، ومن هنا يأتي دور التربية في ترسيخ الأفكار والممارسات والقيم الجديدة والمشاركة والعمل التعاوني، واحترام ثقافة الغير ومحاربة الفساد القائم، وتنقية المجتمع من الأمراض الاجتماعية، وبذلك يتم بناء المجتمع على أسس “الفطرية” التي تعد – كما قال الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله- “بمثابة عملية إصلاحية وجدانية، تقوم أساسا على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلا على إخلاص التوحيد وإصلاح ما أصابها من تشوهات تصورية وسلوكية، في شتى امتداداتها العمرانية”(2).
ورغم أننا ركزنا في طرحنا على أن التربية أساس التغيير، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأنها العامل الوحيد في مسألة التغيير، إذ لابد من وجود بعض المؤثرات التي ترافق العملية التربوية أو قد تدفع باتجاه التعجيل في انطلاق التغيير.
لذلك نعتبر أن إصلاح المنظومة العقدية هو المدخل المحوري لتنزيل مقتضيات التغيير، وإحداث تحولات جذرية عميقة في الوضع الإنساني، الذي اعترته اختلالات كثيرة على مستوى الفكر والسلوك والعمل والعلاقات.
نخلص بناء على ما سبق إلى أن فيروس “كورونا” فتح بابا واسعا للتغيير في المغرب، وسمح للقائمين على مشروع “النموذج التنموي الجديد” والساهرين عليه إعادة النظر فيما سطروه من استراتيجيات ومقاربات، كما جعل جميع مكونات النسيج المجتمعي المغربي تعيد النظر في نفسها، والتأمل في تصرفاتها العملية والسلوكية، وذلك بهدف القضاء على الفراغات الروحية أولا، وتقوية الأبعاد الإيمانية ثانيا، والأمر الثالث ذو أهمية كبرى وهو التركيز على البعد المضموني للإصلاح العقدي، باعتماد الآليات التالية:
– صياغة وبناء معالم إصلاحية ناجعة لاستعادة فاعلية العقيدة في كيان المواطن المغربي.
– هندسة المكون المعرفي التربوي الموافق للسياق المحلي الراهن، وذلك باستئناف الممارسة التقريبية بشروطها، في مناهجنا ومنظوماتنا التربوية، إبداعا وابتكارا، نظرا وعملا، استعمالا واستكمالا، حالا ومآلا، وسيلة ومقصدا.
– تقوية مجال تواجد الشباب بشبكة من العلماء الوسطاء من نفس الفئة العمرية، وهذا يسمى ب”التثقيف بالنظير”، لأن الشباب يكون أكثر تأثيرا على الشباب، لأن الشباب سئم من المقاربة التعليمية التدريسية الإملائية، من دون أن يكون ثمة إشراك لهم.
– إنشاء مراصد وطنية للقيم، لأن ذلك بات من أولى الأولويات.
– مراجعة القطاع الإعلامي السمعي البصري والورقي والإلكتروني، من خلال التشجيع على إنتاج برامج تثقيفية وتوعوية، وبرامج تسلية بديلة هادفة، وإنتاج أفلام محلية مربية وحاملة لقيم الدفع والإيجابية، وكذا التشجيع على إنتاج الألعاب الكرتونية البانية المنافسة لما هو موجود في السوق.
وأخيرا، فإن الإجابة عن سؤال التغيير يحتاج إلى تضافر جهود كبيرة من الجميع، شريطة أن تكون أكثر اتساقا وعمومية، وأكثر تماسكا وانضباطا مع تعاليم ديننا الحنيف، مصداقا لقوله سبحانه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (3)، بهدف الوصول إلى درجة التغيير الذي يطمح إليه ويترجاه كل مواطن مغربي من مشروع “النموذج التنموي الجديد”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) نظام الإسلام: العقيدة والعبادة، محمد المبارك ص 3
(2) الفطرية: بعثة التجديد المقبلة، لفريد الأنصاري، ص 105
(3) سورة الرعد، الآية 11
الباحث: عبد اللطيف التواصلي
باحث في سلك الدكتوراه فكر الإصلاح والتغيير بالمغرب والعالم الإسلامي.