عبد العزيز كوكاس
في المسار الديمقراطي السليم يأتي السياسي إلى السلطة ويذهب عنها في مباراة تنافسية عادية، لا تأثير لها على بنيان الأمة ومؤسسات الدولة، ولا يخلد إلا ما شيده السياسي الديمقراطي من نجاح أو فشل في حياة شعبه؛ لكن الأمر يختلف في الأنظمة الاستبدادية، إذ إن قدوم الزعيم إلى السلطة كما رحيله عنها مرتبط بنوع من الإخراج المسرحي والطقوس الكرنفالية، دم وعنف، أوهام بطولة ونرجسية مريضة مليئة بالعناد والتبجح، المزاوجة بين الاستحواذ الكلي على مطلق السلطة بعد تنحية المعارضين والمنافسين بطرق درامية عنيفة، والإيهام بالخلود والنعيم وخدمة الخير والسعادة والإله عبر ملهاة الخطب العصماء، ثم في غالب الأحيان، الانتهاء إلى مأساة نهاية الدكتاتور الزعيم الذي لا يموت في الأغلب الأعم موتة طبيعية، بل في سيناريو يجسد تعذيب الرعاع له أو سحله من طرف “الثوار” – ممن كانوا يقدمون له فروض الولاء والطاعة- في الشارع العام أو اغتصابه أو قتله شنقا أو إعداما..
هتلر، صدام، القذافي.. لم يموتوا
ليس التاريخ سوى مجموعة أكاذيب متفق عليها، كما كان يردد نابليون بونابرت الذي تحار الشعوب في تصنيفه بين القائد العسكري الذكي والحاكم الثوري والمستبد الطاغية. هذا ما تحس عادة الشعوب المستضعفة اتجاه مستبديها، حتى حين تسمع بموتهم لا تصدق الأمر، إذ الطغاة أقرب إلى الخلود في لا وعي العامة. لذلك، لم يؤمن الألمان بموت أدولف هتلر، وظل حتى بعد اختفائه ينهض من قلب الحكايات المتناسلة حول وجوده في أقصى أوروبا أو في أمريكا الجنوبية أو غيرها، على الرغم من أن كل الوقائع تقول إن الطاغية النازي قرر الانتحار في 30 أبريل 1945.
لقد أبدع الألمان حكايات كثيرة متباينة حد التناقض: هل انتحر أم هرب وهل انتحر بالرصاص أم بالسم، وآخر ما روته الكاتبة البرازيلية اليهودية سيمونى غريرو دياس عام 2014 أن أدولف هتلر لم يمت عام هزيمة ألمانيا، بل فر منها إلى البرازيل، وفيها عاش متنكرا باسم مختلف، ثم توفى في 1984 وهو يبلغ 95 سنة من عمره..
مباشرة بعد بث مقاطع فيديو من كاميرات هواتف محمولة على المواقع الإلكترونية. وبعدما أُعلن رسميا عن اغتيال الزعيم الليبي معمر القذافي، قام خبير روسي بتكذيب رواية قتله مدعيا أن من قُتل هو شبيه القذافي لا ملك الملوك ذاته.. وأعاد حكاية الشبيه كما ترددت مع هتلر وصدام حسين وغيرهما… كأن الزعيم لا يموت! في قلب بغداد سمعت حكايات غريبة على لسان عراقيين أكدوا لي أن الذي أعدم ليس صدام وإنما شبيهه للتمويه فقط.. هل هو خوف الشعوب من عودة الطاغية من جديد للبطش ونشر الرعب؟ هل هو تماهي العامة مع الحاكم المستبد؟ ثمة ما يشبه الرحمة والشفقة على رؤية “كبيرهم” يسقط بين يدي “صغار” الشعب ورعاعه، فيما يذكرنا بمرض “متلازمة هلسنكي” الشهير، حيث يتعاطف الضحايا مع جلاديهم..
موت الطاغية يظل في اعتقاد عامة الناس أشبه بالخدعة؛ فالمستبد استثنائي، كائن يقترب من الأسطورة، وبحكم دهائه ومكره يملك قدرات غيبية على التخفي لينبعث من جديد، يتجمهر الناس حول جثة الطاغية يريدون التأكد من أنه غادر عالم الأحياء ولن يعود إلى سابق بطشه، إنهم لا يثقون بالأخبار الرسمية، فالشعب المضطهد يصطف في طوابير للتأكد من موت الزعيم، وأنه ليس أمام خدعة حرب، بل إن الجثة وحدها لا تقوم كدليل على موت الحاكم المستبد، إذا لم تلمس أو تصور أو ترى في مشهد فرجة جماعي.. لكي لا ينبعث من مرقده الأخير، ليس الحاكم، ولكن حكمه المستبد، إرهابه وطغيانه ورعبه.
ولأن الزعيم المستبد لا يريد أن يموت فإنه اكتشف في العالم العربي طرقا جديدة لإدامة سلطته القمعية، حيث حول أنظمته الجمهورية إلى أنظمة وراثية. لقد نجح حافظ الأسد في توريث حكمه لابنه طبيب العيون بشار، وسار على هديه كل من حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي لولا اندلاع الربيع العربي الذي أنهى حكم معظمهم بشكل تراجيدي، وقبله اجتهد صدام حسين في تأهيل ابنيه عدي وقصي لخلافته.. لكنهم جميعا انتهوا بشكل دموي.
الزعيم والشبيه.. ظل الاستبداد
“موت الطاغية” هو موت استثنائي، لأن الدكتاتور دوما يحب أن يعيش أطول مدة متماهيا مع كرسي الحكم، يريد أن يخلد في الواقع العيني.. ولأنه غير عادل، ممقوت ومكروه من طرف الشعب، فإنه معرض للقتل من طرف الأعداء، من خاصة أو عامة الشعب.. لذلك، يستثمر الطاغية ذكاءه، فيخلق شبيها أو أشباها له، يتم صنعهم كما في الصناعة الهوليودية لتمثيل دور الزعيم، يوضعون للتمويه، لاختبار الأمكنة الملغومة، للمخاطرة بحياتهم إنقاذا لحياة الزعيم المستبد.. وأحيانا لمجرد السخرية، وخلق حالة الفرجة ليروق مزاج الزعيم؛ فقد كان شبيه صدام حسين يخرج إلى الساحات العامة حيث يتجمهر الناس ويحيونه، وأحيانا يفاجئ وزيرا في مكتبه أو رجالات الدولة الكبار.. حتى يبرز أن الزعيم قريب منهم قادر على التواجد معهم في كل حين، يرصد سكناتهم وحركاتهم أينما حلوا وارتحلوا.
يسهر على إعداد شبيه الحاكم المستبد خبراء التجميل ضمن حلقة جد ضيقة قد يحكم عليها بعدم مغادرة القصر الرئاسي إلى الأبد، وأحيانا يكون مصيرها ما لاقاه المهندس سنمار مع الإمبراطور الروماني.. القتل أو الرمي من شاهق كما تقول الحكاية!
يَمحي الاسم الأصلي ورسم الولادة والوثائق الذاتية لشخصية الشبيه، الذي يكتسب هوية جديدة، هوية الزعيم، يقلد مشيته، يتعلم طريقة أكله وشربه، شكل جلوسه، طبيعة ملامح وجهه لحظة الغضب والفرح، السخط والرضا.. تذوب أو تقمع إلى الأبد شخصية الشبيه ليتماهى مع الزعيم.. لا يعيش الشبيه حياته كذات مستقلة، ككينونة حقيقية.. إنه هنا للتمثيل والمسرحة والقيام بأدوار سينمائية مؤدى عنها بسخاء، الشبيه يقتل أناه ليعيش كـ”هو” أو كآخر.. الزعيم الذي يخشى الموت والتعرض للأذى، رغم أنه مصدر كل الشرور.. لذلك يُوضع الشبيه دوما في قلب الخطر لفداء الزعيم، إنه فَأْر تجارب خروج الزعيم إلى الفضاءات العامة.
موت الطاغية استثنائي دوما
الطغاة يأتون دوما إلى السلطة عبر القهر الدموي، ولا يغادرون كرسي الحكم إلا نحو أجداثهم، لأن السلطة مثل الأسد حين تمتطيه فهو يفترس الآخرين؛ لكن حين تنزل عن ظهره يأكلك.. هذا ما حدث لجنكيزخان، كاليكولا، إدوارد الثاني، الحاكم الإنجليزي أوليفر كرومويل والسلطان المملوكي بيبرس حتى تشاوسيسكو، ميلوزوفيتش،هتلر، بينوشي وصدام حسين ولن يكون آخرهم معمر القذافي..
في مقال له على صفحات جريدة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون” نشر يوم 28 أكتوبر 2011 (انظر ترجمة حميد عالية بجريدة “الاتحاد الاشتراكي في عددها ليوم 3 نونبر 2011)، كتب المؤرخ البريطاني الشهير سيمون صباغ مونتيفيوري: “تنتهي حياة السياسيين بالفشل ما لم تنقطع في ظروف مواتية، لأن تلك هي طبيعة السياسة وطبيعة الأعمال الإنسانية”؛ بيد أن الحياة السياسية للطغاة يختلف شأنها في التعامل مع شؤون الناس بكثافة خاصة، “فموت زعيم ديمقراطي، بعد وقت طويل من التقاعد، يعد حدثا من قبيل الحياة الخاصة، لكن موت الطاغية يعد في كل الأحوال حدثا سياسيا يعكس طبيعة سلطانه، فإذا مات بسلام في سريره في تمام ازدهار حكمه، فإن موته يعد مسرحا لتلك السلطة. أما إذا تجرع الطاغية الموت وهو يبكي مستجديا الرحمة ويتمرغ في التراب فهذا أيضا انعكاس لطبيعة نظام منهار ورد فعل شعب مضطهد”.
تم إخراج صدام حسين من حفرة بأسمال رثة وبهيئة أهل الكهف، وتم إعدامه شنقا.. وهب الرعاع من العامة إلى جرجرة تمثاله في الشارع العام، في القديم تجمع الناس حول الطاغية البيزنطي أندرونيكوس الأول، نتفوا لحيته وخلعوا أسنانه وصبوا على وجهه ماء مغليا وسحلوه حتى الموت. أما الملكة المستبدة شجرة الدر، فقد ماتت تحت ضربات العبيد والإيماء لها بجزماتهم وقباقبهم قبل أن يُرمى بها من فوق سور عال. وألقيت الملكة إيزابيل من الشرفة العالية لقصرها..
لذلك، نفهم ما قام به الثوار، خارج الوجه الأخلاقي والإنساني، حين ألقوا القبض على معمر القذافي، ملك الملوك، الرجل الدموي الذي تماهى مع السلطة حد الموت، فتعرض للصفع والسحل والتمثيل بجثته.. إنها نهاية الطاغية بأسلوب مقزز، نوع من الافتراس والانتقام من أيام السطوة.
العبث بالأعضاء التناسلية للزعيم
ثمة ملاحظة لافتة للانتباه في نهاية الطغاة، ترتبط بدلالة سعي العامة إلى العبث بالأعضاء التناسلية للحاكم المستبد وأحيانا بشكل وحشي؛ فقد عمد عامة الناس إلى بتر الأعضاء التناسلية للملك العراقي فيصل وابن عمه عام 1958، وعام 1996 بتر الأفغان الأعضاء التناسلية للزعيم نجيب الله الذي كان مواليا للسوفيات قبل شنقه، كما الملك إدوارد الثاني، الشاذ جنسيا، إذ تقول الروايات إنه تم إدخال قضيب محمي حد الاحمرار في مؤخرته، وأبرز شريط فيديو أن أحد الثوار أدخل سكينا في مؤخرة معمر القذافي، كما راج أن الرعاع قطعوا العضو التناسلي لأحد أبنائه..
في وصف موت أحد ملوك يهوديا الطغاة، يقول الكاتب جوزيفوس: “إن مرض هيرود يشتد عليه يوما بعد يوم (…) وأعضاؤه التناسلية قد تعفنت وصارت تولد فيها الديدان”! لقد ناب المرض هنا عن فعل الثوار أو الغوغاء.. يشير القضيب إلى فعل اغتصاب السلطة، فعل قهر الحاكم للمحكومين؛ فالحاكم المستبد يأتي إلى الحكم فيما يشبه الخيانة، يزرع الرعب في شعبه، يقتل معارضيه بعنف، يحكم بالحديد والنار، ويستعمل كل وسائل الدولة لإخراس صوت المنافسين، ينهب الثروة باسم الثورة، ويزرع بدهاء ومكر كل أشكال الخوف في الشعب…
الطاغية رجل مستبد والقضيب هو رمز الذكورة والفحولة وأداة القهر والاغتصاب. لذلك، حين تتقوض دعائم حكم الطاغية الذي يسقط بين أيدي عامة الناس، ثوارا أو غوغاء، لا يكتفي الناس بقتله ورؤية جثته الهامدة؛ بل يتم قطع أعضائه التناسلية أو اغتصابه كنوع من الثأر لسنوات من الكبت والحرمان والتسلط التي مارسها الحاكم المستبد على محكوميه، كأنه لا بد من موت استثنائي لزعماء استثنائيين اغتصبوا السلطة وسرقوا أحلام شعوبهم في الحرية والكرامة والتنمية والديمقراطية.
لا قبر يتسع للزعيم
نادرا ما مات الطاغية على سرير نومه بشكل هادئ وبدون زوابع، فموت الطاغية مستفز، استثنائي، فرجوي، ميلودرامي، مليء بالإثارة.. يموت الحاكم المستبد ولا تنتهي حكايات وأساطير تنمو مثل كرة ثلج حول شكل موته الغريب والوحشي.. ولأن الطغاة دهاة حتى في موتهم فإن الأحياء يستمرون في القلق من جثتهم التي لا يتسع لها قبر.
هناك حكايات مثيرة حول خلق نماذج من الحكام العرب لأشباه لهم بغية التمويه أو اختبار موقع أو النجاة من اعتداء محتمل، حيث يلعب الشبيه دور كشافة الألغام في مسار عبور الرئيس، وأحيانا لمجرد خلق أدوار جديدة في مسرحية الزعيم، كنوع من الفرجة أو الملهاة من شبيه صدام حسين إلى شبيه معمر القذافي… وكيف يتم التشكيك في رحيل الزعيم بادعاء موت الشبيه، وتظل الحاجة دوما إلى تأكيد الموت بشكل رسمي كأن الطاغية لا يموت.
تقع جثث الطغاة مثل الجمرة الخبيثة بين أيدي الأحياء من ورثة نظام الحكم الجديد.. يُروى أن الحاكم المنغولي جنكيزخان، الذي اشتهر برعبه وبطشه وعاث فَسادا في كل أرجاء آسيا وشرق أوربا، بقيت جثته بدون قبر. وحتى اليوم، تختلط الأساطير بالحقائق حول قبر جنكيزخان؛ فقد أوصى بأن تدفن جثته بأحد المراعي التي تشبه قطعة من الجنة. وحين مات وعملا بوصيته قام خدامه بنقل جثمانه إلى منغوليا حيث المرعى الذي اشتهى أن يكون مثواه الأخير؛ غير أن العربة التي كانت تقل جثته سقطت في حفرة قبل بلوغ القبر المشتهى لجنكيز خان، وبعدها لم يعد الترك أو المغول يعرفون قبر الطاغية.
كان موت هتلر استثنائيا، لقد تزوج من معشوقته إيفا براون ومات بتناول السم في حديقة “كوتردا ميرونخ”، على الرغم من تعدد الروايات حول شكل انتحار الدكتاتور ونهايته، هل أطلق النار على نفسه أم تناول سم “السيانيد”، أم هرب إلى أمريكا اللاتينية.. فالمهم أن جثة هتلر حيرت ورثة نظام الحكم بألمانيا، حيث تم حرق جثته ورمي رمادها في نهر ألبه.. وفي رواية أخرى، فإن جثته تم دفنها في مقر مركز المخابرات الألمانية ليعاد نبش القبر وإخراج جثته أكثر من مرة قبل أن يتم الأمر بإحراقها وإتلافها نهائيا خوفا أن تصبح مزارا للنازيين الجدد!
أما نهاية الطاغية موسوليني فتستفز الخيال لأنها أشبه بحكايات العجائب القديمة، فقد أعدم الدكتاتور الفاشي الإيطالي رميا بالرصاص برفقة خليلته كلاريتا بيتاتشي، حين كان يعتزمان التسلل إلى إسبانيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. علق المنتصرون جثتي موسوليني وبيتاتشي بشكل مقلوب في ساحة بميلانو، وأخذ الإيطاليون يرمونهما بالحجارة ويبصقون عليهما.. وقررت السلطات دفن جثة الدكتاتور موسوليني في قبر مجهول، لكن بعد شهور نبش قبره أحد المعجبين به سنة 1946، وسرق الجثة تاركا رسالة على القبر كتب عليها: “أخيرا، ها أنت معنا أيها الدوق”. وبعد التحريات، عثر على جثة موسوليني محفوظة بشكل أنيق لدى راهبين، فقررت السلطات الإيطالية إخفاءها في دير، قبل أن تستقر في مسقط رأسه بريدابيو..
وعلى خلاف الطيبين الذين يصبح لهم قبر والأولياء الصالحين الذين يتصارع الناس على نصب الأضرحة على قبور مفترضة لهم في أكثر من مكان، فإن الطغاة لا يدفنون إلا في أماكن سرية، مجهولة.. فحتى قبور ستالين وفرانكو وموسوليني وتشاوسيسكو.. فلا قبر لصدام، ولا قبر للقذافي كما أغلب الطغاة.. والذريعة هي الخوف من تحول قبر الزعيم إلى مزار، إنه خوف من عودته إلى الحياة، من بعثه مجددا من خلال قبيلته أو أنصاره الجدد.. كأن الموت الذي يوقعه به الخصوم أو الغوغاء لا يكفي لاختفاء ظلم الدكتاتور وجثته الهامدة ذات مكر خاص، تظل مصدر خطر داهم بالنسبة للأحياء حتى الثوار منهم لا يهنأون بنصرهم إلا بعد إحراق جثة الطاغية وذرها في البحر، أو إخفاء معالمها عن عامة الناس، هكذا هم الطغاة يحيروننا لما يحكموننا، ويحيروننا لما يرحلون عنا بشكل تراجيدي.