عبد العزيز كوكاس
“الكلام المرصّع فقد المذاق
والحرف البرّاق ضيّع الحدّة
ياك الذلّ محاك يا سيدي عفاك
وكلمة عفاك ما تحيّد شدّة”.. شهرمان وغناء جيل جيلالة.
بالأمس كان لدينا “لكلام لَمْرصَّع” الذي يوقد الدفء في أوصال الكلمات، يمنح المعنى لكل ما تلتقطه عينا الصحافي من آلام وآمال المجتمع، واليوم لا يوجد لدينا سوى “لَكْلام لعريان” من الصدق والمعنى والقيمة أيضا..
كان الكلام مرصعا بلآلئ المعنى وبصدق التعبير عن الحب، اللعب والحياة.. كان لدينا “الكلام المرصع” حين كانت الكلمة هي الرجل رغم أنها أنثى في المبنى (وعُذْراً لكل مفرط شديد الحساسية من بقايا تقسيم العمل بين المرأة والرجل، فالرجل هنا يحيل إلى معنى غير ذكوري، إنه الإنسان)، كان الرجل هو الكلمة، وكانت الكتابة ولادة بعد مخاض عسير، وكانت الصحافة ككتابة مهنة للمتاعب وللولادات الصعبة، ومحط ثقة النخب المستنيرة في المجتمع وحاضنة لقيم التقدم والحرية والحداثة.
كانت الورقة أنثى والقلم ذكراً، هو لباس لها وهي لباس له، ومن تزاوجهما تولد حرقة الكتابة، ومنها الكتابة الصحافية التي حمت القيم الرمزية للأمة في زمن صعب.
كانت الكتابة رمزاً للفحولة، لذلك لم يؤمن الكثيرون بأسبقية أنثى مثل الشاعرة نازك الملائكة لتكون رائدة الشعر الحر، حتى ولو جاءت بديوان كامل، وكان يكفي أن يصدر الشاعر الذكر بدر شاكر السياب قصيدة واحدة عام 1948 تحت عنوان “هل كان حبا” ليقع النقد في شرك حق الأسبقية للقصيدة/ الأنثى التي كتبها ذكر، أو للديوان الذكر الذي أمهرته بتوقيعها نازك الأنثى.. الأمر نفسه حدث مع أحلام مستغانمي، إذ تم التشكيك في صحة نسب رواية جميلة في حجم “ذاكرة جسد” للأنثى أحلام. ونسجت روايات حول وجود ذكر حتى لو كان “عابر سرير” وراء إنتاج رواية أحلام مستغانمي، من نزار قباني إلى سعدي يوسف الذي لمح للعمل الإبداعي ذاته في ديوانه “حانة القرد المفكر”.
كانت الصحافة أنثى، والكتابة كذلك، بينما القلم ذكر والكلمة هي الرجل- الإنسان بغض النظر عن جنسه ونوعه.. اليوم في زمن الكومبيوتر، لم نعد نستطيع تمييز الذكر من الأنثى في الكتابة وأدواتها كما في كائنات الصحافة أيضا، أين الذكر من الحاسوب؟ هل هو الشاشة أم الفأرة أم لوحة المفاتيح أم القرص الصلب؟ فالحاسوب لا قضيب له؛ لعل لذلك لم تعد الكلمة رجل، أقصد الإنسان.
هل لذلك أضحت الكتابة ذاتها باردة، بلا قلب ولا وجع، بلا حب ولا مخاض ولا ولادة.. كتابة منسوخة/ ممسوخة كسولة وبليدة، بلا أوصال ولا جذور، كتابة جامدة مثل قبر من رخام، صامتة مثل صخرة صماء، ملساء مثل جبل في القطب المتجمد؟ سهلة ورخيصة مثل داعري وداعرات رصيف الليل. بالأمس كان الكلام مرصعا بجواهر المعنى وبحرقة القلب، والكلمة رجل تكتب بقضيب، هو القلم حتى لو كان بيد أنثى، وكان الكاتب أو الكاتبة قد قلمه (ا)، قد كتابته (ا)، يحتفي باسمه (ا) ممهوراً على أجنة، قبل أن ترى النور، يظل الصحافي أو الصحافية يرعاها بحرص العشاق ونبل الأنبياء… اليوم أضحت الكتابة، وأخص بالذكر الكتابة الصحافية، بلا قلب ولا روح ولا معنى.. صحافيون نابتون مثل الفطر، يتركون دروسهم حول المهنة وراء ظهورهم في قاعات الدرس، ويقترفون مهنة الصحافة عن سابق إصرار وترصد، ويكتبون بلا وجع، لا يرهبهم البياض الممتد أمام أعينهم مثل صحراء كل قطعة منه متاهة، لأنهم هنا أمام الحاسوب في زمن التقنية، لديهم كل مفاتيح الكون مع لوحة المفاتيح والشيخ غوغل الذي يبرر الشيء ونقيضه: الموت والحياة، الدال والذال، الحقيقة والكذب… لا حسيب ولا رقيب في زمن النعجة دولي!.
كان الكلام مرصعا والكتابة مسؤولية أخلاقية تجاه الذات قبل المجتمع، أما اليوم فنحن أمام الكلام العريان، أي الكلام الخالي من أي حس نقدي/ أخلاقي/ معرفي.. لا سلطان على الكلام اليوم.. سدنة المعنى تواروا في الغياب، ومن بقوا من أحلام الربيع الصحافي انغمسوا في صراعات المواقع، وحماية مصالح المؤسسات الاقتصادية، أو تطرفوا أكثر مما يحتمله العمل الصحافي في مجتمع مكبل بألف قيد، وأضحى المعنى آخر اهتمامهم، وبارت الأيام مع جيل صحافي يقترف المهنة بوجه سافر وبلا وجع أو حرقة.. مثل داعرة تفتح فخذيها لعابري السبيل، أضحت مهنة الوهم الأكبر، التي هي الصحافة، مجالا للتجار الصغار من أشباه الصحافيين الذي يفتتحون دكاكين للربح السريع، الذين يقتاتون على الماخور الأكبر للمجتمع من أوجاعه الهامشية، بدل كشفها لمعالجتها، يوخزون دماميلها ليعيد نفخها بقيحهم وصديدهم لتستمر في جلب النقرات واللايكات لما يخطون. ما هو السؤال المركزي لأكبر المؤسسات الصحافية اليوم: هل هو الكلام المرصع؟ الحرقة المهنية لتطوير الصحافة وأخلاقياتها؟ الانتساب إلى الحقيقة مهما ارتفعت تكلفتها وضرائبها التاريخية؟ أبدا!. إنه الكلام العريان، من المعنى والحقيقة، من المعاناة والصدق.. إنه الكلام العريان من الولادة الصعبة، المؤمن بأولية كسب الربح على وجع الحقيقة، المرح زيادة على اللزوم بالجني المادي السريع، بدل المكاسب الرمزية للمؤسسات الصحافية في إنتاج المعنى والانتصار للحقيقة والمساهمة في تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي للرأي العام.
الكلام العريان ينتجه صحافيو الكوكوت مينوت، ما تساقط من أوراق خريف المعنى، المتسولون أمام أعتاب المؤسسات الاقتصادية، الناسكون الخاشعون في محارب السلطة والمال، ضد المبادئ النبيلة التي وُجدت من أجلها الصحافة… ويا قلبي، ما لي أنا.. أصخرة لا تحركها كل هذه الأغاريد، لم لا أدخل رأسي مثل النعامة في الرمل وأقول اختبأتُ من صهد الأيام، وأضع رأسي بين قطيع الجماعة وأنادي السياف: “فينك أقطاع الريوس”؟. وهل تبقى لي رأس لأفكر به في كل هذا الخراب، لأنتج مثل ت. س. إليوت قصيدة تليق بكل هذا الخراب، وما لي مثل نائحة لا أتعلم الزغاريد في زمن الكلام العريان بدل الكلام المرصع.