محمد أديب السلاوي
لعل أهم تحد يواجه المغرب الراهن، هو عملية الخروج، من العقلية المخزنية إلى العقلية الديمقراطية، بعدما أكدت “العقلية المخزنية ” فشلها الدريع، حيث أدت نتائجها المتوحشة، إلى اختلالات و انعكاسات سلبية، على المستوى السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي وإلى خلق أزمات حادة أدت في نهاية المطاف، إلى تكريس الفساد و الفقر و التفاوت الطبقي المريب. و هو ما يعني باللغة السياسية، ضرورة الخروج من نفق ” دولة المخزن “، والدخول في مرحلة ديمقراطية (دولة الحق والقانون) و تشترط تأمين حقوق الإنسان و كرامة المواطنين و أمنهم كقاعدة أساسية للحكم/ الدولة .
و السؤال الذي تطرحه هذه الإشكالية :
إلى أي حد يستطيع العهد المغربي الجديد مواجهة مثل هذا التحدي؟ و بأية إمكانات ؟
هل ب ” تغيير ” مفهوم السلطة؟
أم بتحديث آليات الشأن العمومي . و تغييرها بما يشع ثقافة الديمقراطية و حقوق الإنسان، و الأمن و الأمان بين المواطنين …؟
هل بأحداث تغيير جذري في طبيعة البناء العام لطبيعة السلطة في المغرب. أم بتأسيس نظام مغاير في ظل نظام الاستمرارية ؟
تاريخيا، دعا الملك الشاب جلالة محمد السادس، أمام المسؤولين عن الولايات والجهات و العمالات و الأقاليم ( يوم 12 أكتوبر 1999 في مدينة الدار البيضاء ) إلى ضرورة نهج أسلوب جديد للسلطة و ما يرتبط بها من قضايا تتعلق برعاية المصالح العمومية و الشؤون المحلية الفردية و الجماعية. و إلى السهر على الأمن و الاستقرار وتدبير الشأن المحلي و المحافظة على السلم الاجتماعي .
و في خطاب العرش لسنة 2000 أكد الخطاب الملكي على المفهوم نفسه، حيث أرادها ( أي السلطة ) ترعى المصالح العمومية و تدبير الشؤون المحلية و تحفظ الأمن و الاستقرار، وتسهر على الحريات الفردية والجماعية و تنفتح على المواطنين في احتكاك مباشر بهم ومعالجة ميدانية لمشاكلهم و إشراكهم في هذه المعالجة .
لم يكتف هذا الخطاب بتقديم الإشارات، ولكنه تطرق بالكثير من الوضوح والعمق إلى هذا المفهوم، من خلال عدة محاور، يمكن تلخيصها في النقاط التالية :
1 – رعاية المصالح العمومية، في إطار سيادة القانون، و لا يمكن تحقيق هذه الرعاية إلا بثقافة جديدة تجعل السلطة راعية لهذه المصالح بالأبعاد التنموية الحقيقية .
2 – تدبير الشؤون المحلية، بحيث يكون التدبير بيد المنتخبين الذين يختارهم المواطنون بأساليب النزاهة و الحرية، و بحيث تكون الإدارة المركزية المساعدة الإيجابية على هذا التدبير، و ليس السيطرة و الهيمنة، فالتدبير المحلي في إطار المفهوم الجديد للسلطة يتوقف على الاستقلالية الفعلية لمؤسسات هذا التدبير.
3 – المحافظة على الأمن و الاستقرار، بعمل السلطة على توفير شروط الأمن الحقيقي و الاستقرار الفعلي/ الأمن الذي يحمي المواطنين و ممتلكاتهم و مصالحهم/ الأمن بمفهومه الشامل الذي يتغيا تحقيق التنمية .
4 – السهر على الحريات العامة، إذ يجب على السلطة في إطار تطبيق المفهوم الجديد للسلطة أن تحرص شديد الحرص على صيانة الحريات العامة، الفردية و الجماعية، طبقا للقوانين بفلسفة الانفتاح على المواطن، و يجب على السلطة أن تشتغل على إنماء هذه الحريات لا أن تكون معادية لها.
5 – الانفتاح على المواطنين في احتكاك مباشر بهم، فرجل السلطة لا يمكن أن يقوم بوظيفته الكاملة و هو يعيش في برج من الأبراج لا يراه الناس إلا في حفلات التدشينات، بل يجب أن يكون حاضرا، فاعلا في قضايا المواطنين، من خلال الاحتكاك الذي يعطيه تقديرهم و احترامهم .
6 – إشراك المواطنين في المعالجة، و هذا يفرض أن يكون رجل السلطة مشبعا بعلم الاجتماع السياسي، فالاشتراك تقليد من تقاليد المعالجة السياسية في بلادنا إذ كانت ” الجماعة ” تتكلف بتسوية مختلف القضايا في إطار التشاور و التشارك و الديمقراطية، و غالبا ما كانت ملفات كبرى شائكة تعالج دون أن تصل إلى رجل السلطة أو القضاء، و رجل السلطة الذي ينطلق من الاقتناع بإشراك المواطن في صياغة مختلف المعالجات بأبعاد جهوية تراعي خصوصية كل جهة، فإنه ينمي ثقافة المفهوم الجديد للسلطة لأنه يحقق سيادة فعلية بمصالحة دائمة بين المواطن و السلطة.
يعني ذلك أن المفهوم الجديد للسلطة، يجب أن يتخذ طابعا شموليا، يربط الحقوق بالواجبات، و الحرية بالأمن و التنمية بالسلم الاجتماعي، فشموليته تجعله لا يقتصر فقط على الإدارة الترابية التي تشكل فضاء متميزا اعتبارا لوظيفتها المركزية في النظام السياسي والإداري المغربي، و لاحتكاكها المباشر مع المواطنين، بل تجعله هذه الشمولية، يحتوي كل سلطة في مؤسسات دولة الحق و القانون…
و إن قراءة متأنية لهذا المفهوم في الخطاب الملكي، تعطي الانطباع، أن المنطوق الملكي يتجه بداية و قبل كل تنظير، نحو “المصالحة” بين السلطة و المواطنين، فلن يتحقق المفهوم الجديد للسلطة خارج شروطه الموضوعية،و أهمها إعادة الطمأنينة و السكينة والرضا إلى نفوس المواطنين الذين جعلت منهم السلطة في الماضي البعيد / القريب أعداء معارضين.
إن وزارة الداخلية في وقت سابق، أقامت مفهومها للسلطة على قواعد عشوائية، لا علاقة لها بالحق والقانون…ولا بالديمقراطية، يمكن إجمالها في :
ــ احتقار المواطنين و تجاهل إشراكهم في اتخاذ القرار .
ــ العمل بمركزية مفرطة و بضعف اللاتركيز .
ــ استبداد رجل السلطة، و استغلاله لنفوذه في الحد الأقصى.
ــ سوء تدبير السلطة لشؤون المواطنين و لقضاياهم.
ــ تزوير إرادة المواطنين في الاستحقاقات الانتخابية .
ــ تفشي الرشوة و المحسوبية و الزبونية في الجهاز السلطوي.
انطلاقا من هذا المفهوم طرح السؤال نفسه بكل ثقة و بكل حدة : هل يعني إعطاء مفهوم جديد للسلطة تغييرها؟ … هل يعني تغيير رجالاتها و قوانينها، أم إزالة الأسباب التي أدت إلى فسادها و تخاذلها؟
إن ” النخبة ” التي أفرزتها إستراتيجية وزير الداخلية في العهد السابق إدريس البصري ، لتسيير الشأن العام./ كانت نخبة متحجرة في ثقافتها، السلطوية المخزنية. رفضت دائما أن يتطور التاريخ في اتجاه دولة الحق و القانون أو في اتجاه التصالح مع المجتمع/ نخبة وجدت و تهيأت في ظل ثقافة تقوم على تبرير أوضاعها وامتيازاتها و سلطاتها الواسعة، فكرست قيمها ومعاييرها واعتباراتها الاجتماعية. خارج القانون، و خارج الضوابط الأخلاقية أحيانا.
لأجل ذلك، جاءت دعوة الملك الشاب محمد السادس في بداية عهده، إعطاء مفهوم جديد للسلطة، لتعكس رغبة جيله الشاب،في الانتقال من مرحلة استنفدت نفسها و إمكاناتها. إلى مرحلة أخرى، تقوم على مبادئ المواطنة. و حقوق الإنسان و دولة الحق و القانون. و هو ما يعني تغيير الوجه القاتم للسلطة، بوجه جديد، تغيير الأشخاص و القوانين و السلوكات و مناهج العمل، التي تتضمن التحكم والنفوذ و السلطة في تدبير الشأن العام.
إن الدعوة الملكية لإعطاء مفهوم جديد للسلطة، تزامنت من الناحية التاريخية، مع الدخول العالمي لمرحلة جديدة من تاريخه، حيث يعمل المجتمع الدولي من أجل تحقيق حد أدنى من الديمقراطية و حقوق الإنسان و الاستقرار الجماعي، خاصة بالنسبة للدول الأكثر فقرا و تخلفا على البسيطة.
و أكيد أن الملك الشاب وحتى قبل أن يعتلي عرش أسلافه المنعمين، كان يدرك بتكوينه وثقافته العريقة ووطنيته وإنسانيته، أن انخراط المغرب في العهد العالمي الجديد، يتطلب مواجهة تحديات التحديث والعولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان، بتأهيل بنياته السياسية والاقتصادية والتشريعية، و تدارك التأخير الحاصل على مستوى تطور هذه البنيات.
فقد، أعطى جلالته وهو وليا للعهد… و هو ملك البلاد، إشارات قوية، أكدت على قناعته الفكرية والسياسية بضرورة التغيير. أن تأكيده على الجانب الدستوري في عملية انتقال العرش المغربي، و أحداثه لمنصب الناطق الرسمي بإسم القصر الملكي ، و تأكيده المستمر على الإصلاح و التغيير و التعددية، و بناء دولة الحق و القانون ، وصيانة حقوق الإنسان، و دعم التوجه الاجتماعي، و إحداث هيئة مستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء والاعتقال التعسفي، و مساندته لحكومة التناوب، و دعوته إلى إعادة انتخاب المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، و تجديده للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، إشارات كانت وما تزال قوية في اتجاه التحديث الديمقراطي الذي يريده للمؤسسة الملكية، و من خلالها لدولة المغرب الحديث.