محمد أديب السلاوي
في المغرب يختلف مفهوم “السلطة”، عن مفاهيمها في البلاد العربية الإسلامية أو في البلاد الغربية، ذلك لأنها اختارت مفهومها المغاير الخاص، إذ يطلق المغاربة عليها اسم “المخزن“.
و المخزن كمفهوم لغوي يعني المكان الذي يتم فيه الخزن (المستودع) وخزن الشيء، يعني الاحتكار له أو التفرد به.
و يرى بعض الباحثين في اللغة، أن “المخزن” مصطلح مشتق من فعل خزن، بمعنى جمع، وقد كان يشار به إلى ما كان يجمع في بيت المال من ضرائب وجبايات.
إلا أن هذا التحديد اللغوي في نظر بعض الباحثين في العلوم السياسية، لا يفي بالغرض ولا يقدم تحديدا كافيا عن “المخزن” المصطلح الذي يقدم في الواقع السياسي مرادفا لمفاهيم الدولة والسلطة والنظام مجتمعة.
منذ القدم احتل هذا المصطلح مساحة واسعة في الخطاب الاجتماعي بالمملكة المغربية، وارتبط بمضامين التسلط / الحكم خارج القانون / العنف، ومع ذلك ظلت مفاهيمه تكتنز دلالات تاريخية وسياسية عديدة، لما يمثله من سلطة وطقوس وضوابط تقليدية ومحافظة، كانت إلى زمن قريب،هي المصدر الطبيعي لإنتاج الخوف والهبة والامتثال الدائم للترهيب.
لأجل ذلك، شكل “المخزن” مصطلحا وسلوكا وقضية، محورا للعديد من الكتابات والدراسات، التي تناولته من مختلف جوانبه التاريخية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وارتهن العديد منها على مستوى النتائج والاستخلاصات بزوايا المقاربة والانتماء المعرفي والثقافي والسياسي لأصحابها، وهو ما سنحاول الاقتراب منه في عجالة.
*****
1/- في نظر موسوعة الإسلام : المخزن مفهوم اشتق من فعل خزن (أخفى وحفظ) وكان يشير في الممالك العربية القديمة، إلى الصندوق الذي احتفظ بداخله الأمراء بالضرائب التي توجه إلى خليفة بغداد، ثم تحولت الكلمة فيما بعد وأصبحت مرادفا للخزينة.
أما البيت “دار المخزن” فهو الذي تجمع فيه الأموال، فكان “البيت” يعني السلطة المركزية، وأضحى أداة للإشارة إلى البيوقراطية.
2/- وفي نظر المؤرخ المغربي، الأستاذ عبد الله العروي: (في كتابه الآليات الاجتماعية والثقافية الوطنية) فإن المخزن هو تلك النخبة التي تشارك في بيعة الملك واختياره وتنفيذ قرارته، وهو كل الأفراد الذين يحصلون على أجورهم من خزينة السلطان.
3/ أما في نظر الباحث في العلوم الاجتماعية، الأستاذ عبد الكبير الخطيبي: (في كتابه التناوب والأحزاب السياسية) فإن المخزن هو نظام للسلطة والتحكم، متجدر في البيئة الاجتماعية وهرمها، وهو ثقافة وسلوك وقواعد للعلاقات والتحالفات السياسية والاجتماعية وأشياء كثيرة أخرى.
4/- وفي نظر الصحفي المغربي مصطفى حيران ( في مقال له بجريدة الصحيفة الجديدة) أن المخزن هو ذلك المكان الكبير في قصر الملك، الذي توضع فيه الثروة وتمول فيه مقاليد الأمور بكل مناحيها بما يكفل لسلطة المخزن، أن تصنع الزمن الطيب والرديء، وهو بذلك لا يختلف عن وجهة نظر الباحث الفرنسي “مشوبيلير” (في كتابه الشهير أمير المؤمنين) التي تقول بأن المخزن هو المكان الذي تتركز فيه السلطة وتتجمع بداخله الموارد والوسائل التي تمكن من ممارستها. أما سياسيا فإنها تشير الى الحكومة، أي الى السلطة المركزية التي تتكون من السلطان، الوزراء، والجيش.
5/ وفي نظر الحقوقي المغربي الأستاذ فؤاد عبد المومني: (في حوار معه) أن المخزن يرمز أيضا إلى احتكار واسع للسلط المادية والرمزية، وإلى هيكلة فضائها العام في محيط السلطة المركزية، وإلى ترتيب الفضاءات الاقتصادية على مدى قربها منه ومن مركزه ومحيطه.
6/ وفي نظر رجل السلطة العريق والمتجدر في “المخزنية” الصدر الأعظم على عهد السلطان المولى عبد العزيز، أحمد بن موسى المدعو (باحماد) أن المخزن خيمة كبيرة، عمودها المحوري وصاريتها التي ترفعها، هو السلطان وأوتادها التي تحيط بها وتشد جوانبها حتى لا تقلعها الرياح هم القياد/ رجال السلطة.
7/- وفي نظر الباحث المغربي محمد الضريف، فينبغي التمييز في تحديد مفهوم المخزن بين ثلاث دلالات :
الأولى : تتمثل في المخزن كسلطة سياسية، ونقصد به كل الدوائر التي تحتكر صنع القرار أو تساهم في صنعه.
والثانية : تتجسد في المخزن كركيزة سوسيو- اقتصادية داعمة لمؤسسة السلطان.
والثالثة : تتجلى في المخزن كنظام سياسي بما يحتم معرفة طبيعة العلاقات بين المؤسسات الفاعلة في فضاء الدولة”التقليدية” ونقصد بتلك المؤسسات مؤسسة السلطان الشريف، مؤسسة القبيلة، ومؤسسة الزوايا، فهذه المؤسسات الثلاث تشكل أركان النظام السياسي”المخزني”، والمبدأ الضابط لهذا النظام يكمن في “التحكيم” الذي يمارسه السلطان الشريف على المستوى العام، ويمارسه شيوخ الزوايا على المستوى الخاص، غير أن اعتبار السلطان”حكما” لا يفيد أنه حكم”سلبي” بل هو حكم”ايجابي” يتمتع بكامل السلطة لفرض قراراته. وفي هذا السياق لم يكن هناك أي تعارض بين وظيفة التحكيم والطابع الاستبدادي للسلطة.
*****
هكذا نجد”المخزن” يطابق عند الباحثين في الدلالة الأولى ما يصطلح على تسميته بدار المخزن، وفي الثانية العائلات المخزنية وفي الثالثة النظام المخزني.
ويرى بعض الباحثين من زاوية أخرى، أن النظرية السياسية المخزنية التي تتجسد كإحدى مكونات المرجعية التقليدية في النظام السياسي المغربي الحالي، هي نتاج الاسلام” التاريخي” بما يفيد حدوث شرخ بين الإسلام كتصور، والإسلام كممارسة، وكانت الحاجة ماسة لفقه”تبريري” يروم تجاوز هذا الشرخ بارتباط مع ممارسة”مخزنية” كرست أزمة هذا الفقه” التبريري” مما كان يستدعي بين الفينة والأخرى ممارسة واجب “النصيحة” بهدف تسجيل موقف،ونذكر منها بعض الحالات : كأبي زكريا الحاحي في علاقته مع المولى زيدان واليوسي في علاقته مع المولى إسماعيل، والكتاني مع المولى حفيظ وعبد السلام ياسين في علاقته مع الحسن الثاني من خلال “رسالة الإسلام أو الطوفان” أو في علاقته مع محمد السادس من خلال “مذكرة إلى من يهمه الأمر”.
هكذا تكون النظرية “المخزنية” قد سجلت حضورها سياسيا بإضفاء المشروعية على الحكم الوراثي ومعياريا من خلال تبرير تجاوز بعض أحكام الشريعة الإسلامية باسم “فقه الضرورة” الذي تمت المبالغة في استحضاره.
*****
- من الناحية التاريخية
وحسب مراجع التاريخ المغربي، الحديثة والمعاصرة فإن نظام المخزن(الملكية المخزنية) يعود إلى عمق التاريخ الإسلامي في المغرب، تاريخ الدولة الإدريسية، حيث كان الولاة/ رجال السلطة، يجسدون إدارة المخزن وما يخضع لسلطاتهم من موظفين، يعملون تحت سلطة النواب العاملين لأمير المومنين ويخضعون لتعليماتهم وتوجيهاتهم وهو المفهوم نفسه الذي ما زال قائما بالمملكة المغربية حتى الآن…
فالمخزن هو الإدارة التي باشر بها ومن خلالها سلاطين المغرب أمور الحكم، وهي المؤسسة التي تلاقت عندها مختلف مستويات الحكم، من عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، فكان المخزن بهذا المعنى هو الآلية التي تجسد عبرها الحكم الشمولي لسلطان المغرب، ولم تتغير طبيعة المخزن في الواقع طيلة تاريخ نشأته وتطوره. اذ تمكن من ترسيخ وجوده بفضل مجموعة من الآليات المؤسساتية، التي تتحول إلى شبكات للمراقبة ولربط علاقاته بالمحيط، ونعني بها شبكات الولاة والعمال والباشوات والقياد والشيوخ والمقدمين، وجميعهم يجسدون شرعية المخزن وسلطاته ووظائفه.
وفي نظر العديد من الأخصائيين، أن بنية”المخزن” في الوضع المغربي أسبق وأقدم من بنية الدولة المعاصرة. ولذا يتبادر إلى الذهن، أن ثمة علاقة ما بين المفهومية للدولة كما للمخزن في التركيبة البنيوية للتشكيلات السياسية المغربية أكثر من عشرة قرون، فلم يكن ثمة وجود دولة كمفهوم معاصر للدولة قبيل بنية المخزن، لأن الدولة كمفهوم دستوري ليست إلا بلورة لشكل أنيق لمؤسسة أو بنية المخزن.
بهذا المعنى، يصبح”المخزن” في نظر العديد من الباحثين،، مظهرا للدولة، عنده تتمركز كل السلط كأداة إرغام لسلطة القانون وكأداة لتنظيم المؤسسات المرعية في الإطار الجغرافي للدولة.
وبرجوعنا إلى التاريخ الإداري للمغرب القديم، نجد السلطة المخزنية تستمد نفوذها وقوتها وجبروتها من “السلطان”.
المخزن كما سبقت الإشارة، هو فئة من الموظفين، يشرفون على الشؤون العامة بالحواضر والبوادي (الولاة والعمال والباشوات والقواد والشيوخ والمقدمبن والشرطة) وجميعهم يستمدون سلطاتهم من سلطات السلطان، فنظام الملكية المغربية في وضعيته التاريخية، يسمو على مؤسسة أو بنية “المخزن”، كما يسمو ويعلو على جميع المظاهر والرموز التي تشكل مقومات المجتمع المغربي، وذلك من حيث تركيبته السياسية والسيوسيو- ثقافية، أو من حيث تركيبته الروحية، فهو يعكس جميع مكونات الدولة، كما تنعكس تلك المكونات في أنظمته، الأمر الذي أعطى دولة المخزن طابعا فريدا ومتميزا على مستوى الممارسة، كما على مستوى مظاهر وتجليات المجتمع المغربي ككل.