حسن اليوسفي المغاري
“أنا أُطالبُ بحقي إذن أنا انفصالي، أنت تركعُ إذن أنتَ وطني!”
عبارات تميّزت في حراك الريف المغربي بمدينة الحسيمة التي تعيش هذه الأيام مخاضات عسيرة، عبارات أثثت فضاء المسيرة الاجتماعية التي شهدتها مدينة محمد بن عبد الكريم الخطابي الملقب بأسد الريف.. الخطابي الذي أنهك الجيش الإسباني في معركة أنوال سنة 1921 ميلادية.
عبارات من قبيل: “المغرب وطننا، الريف شرفنا. الوحدة قوتنا والسلمية سلاحنا. وتحقيق المطالب هدفنا“،”نحن نريد الانفصال عن الفساد والاستبداد، نحن نريد الانفصال عن الظلم والتهميش. نحن نريد بناء دولة عادلة ووطَن يتسع لجميع أبناءه.” تلكم كانت أقوى العبارات التي لقّنها أبناء الريف المغربي لكل من يريدُ زرعَ بذور الفتنة الحقيقية في مغرب باستطاعته احتضان كل أبناءه في سلم وسلام.
تساؤلات كثيرة تُطرحُ على من يُدبّرون الشأن العام في العديد من القطاعات، علامات استفهام تُساءل القائمين على خطابات وشعارات الديمقراطية، تساءلهم عن الحقوق والحريات والتوزيع العادل للثروات ومحاربة الفساد المستشري في دواليب السياسة والاقتصاد، وعن توفير الكرامة للمواطن بحقه في الشغل والتطبيب والعيش الكريم بعيدا عن المذلة والمهانة والاستغلال.
لقد خرج المواطن الريفي من احتضان مأساته إلى العلن، خرجوا بالمئات بل وبالآلاف مندّدين بالتهميش الذي يُمارس عليهم، وكانت مسيرة يوم الخميس 18 ماي 2017، مسيرة احتجاجية وإضرابا عاما في المدينة الريفية الحسيمة. بل وشاركت جُموعٌ من الضواحي وباقي المدن المجاورة، وكانت الشعارات المدوية الصادحة من حناجر من يرون أنهم مهمّشون مقصيّون مُبعدون عن الحضارة وعن أساسيات العيش الكريم.
سبق لمن وصف أبناء الريف بـ”الأوباش”، والآن هناك من ألصق بهم تُهمة الانفصال، بل والحديث جاري اللحظة بوصفهم بالتخوين والتأجيج وخدمة الأجندات الخارجية والخروج عن الملّة والدين بخروجهم عن طاعة وليّ الأمر!
هناك جدالٌ بين مختلف شرائح المجتمع المغربي حول صدقيّة تلك الاحتجاجات، وحول مدى انبثاقها من بيئة مغربية محضة. مواقف متضاربة بين أقلية مناوئة، وأغلبية مؤيدة ومُساندة، ولعل ما أعطى لتلك الاحتجاجات طعما جديدا هو التحدي الذي رفعه أبناء الريف في وجه المسؤولين الحكوميين و”زعماء” الأحزاب السياسية، الأمر الذي أدى بهؤلاء إلى التخلي عن النعوت القدحية والانتقال بأوامر عُليا إلى المنطقة لمدارسة الأمر والبحث عن الحلول وبرمجة استثمارات قد تعود بالنفع على الساكنة، ما يرى فيه المواطن الريفي مجرد مناورات ودرّ الرماد في العيون من أجل التغطية على الإشكال الحقيقي المتمثل في التهميش والإقصاء الممنهج.
إن النقاش الواقعي الذي وجب على الجميع أن يخوض فيه بكل جُرأة ومصداقية: هل يتوفر نظامنا السياسي على استراتيجية واضحة المعالم للنهوض بالعديد من المناطق المهمّشة في مغرب اليوم!؟ هل نتوفر على استراتيجية تنموية تتغيّى النهوض بالواقع المتأزم للعديد من الفئات المهمّشة في المغرب العميق البعيد عن حضارة المدينة السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو السياحية؟ ما هو الأفق المرسوم والمدروس لتحقيق نهضة شاملة بإشراك المواطن؟ لماذا انتهاج سياسة فئوية في الوقت الذي تعيش فيه قلة قليلة في بحبوحة العيش والرفاه! أهوَ قَدَرٌ أم حتميّة انتهجها وأرادها البعض ضد البعض الآخر!؟
لعل المتتبع للعديد من الاحتجاجات والمسيرات السلمية والوقفات، بل والإضرابات العمالية القطاعية ومحاولات الانتحار وعمليات الإضراب عن الطعام، كلها تأتي جرّاء السياسة الإقصائية، التي ينهجها النظام السياسي بطبقاته السياسية، المفتقرة لبعد الرؤية الاستراتيجية قصد النهوض بواقع المواطن البئيس في العديد من مدنه وقراه البعيدة عن التمدن والحضارة.
إن النقاش القائم الآن حول واقع الاحتجاجات في المغرب، نقاشٌ يُسائل المسؤولين بالدرجة الأولى. نقاشٌ سوف يظلُّ عقيما إذا لم ترافقه النية الحسنة من أجل البناء الحقيقي على أرض الواقع، إذا لم يكن مصحوبا بمنجزات عملية وقرارات إجرائية وأخرى مُحاسباتية بالخصوص، تحاسب كل مسؤول دون استعمال لعبارة “عفا الله عما سلف”.
لقد استتبع حراك الريف حراكات مدن مغربية أخرى، الأمر الذي يستنتج معه أن الأمر صار جادّا لا تخوين فيه ولا فتنة ولا انفصال ولا خروج عن الملة والدين. إنه حراكٌ شعبي لفئة عريضة عانت ولاتزال من التهميش، فئة ضاقت درعا بسياسات اللامبالاة المتعاقبة انتهجها النظام السياسي منذ عقود لم يستفق منها بعدُ.
فما هي بالمناسبة مطالب المحتجين لكي نكون على بيّنة من الأمر؟
طالب المحتجون بمجموعة من المطالب أجملوها فيما هو حقوقي وقانوني، اجتماعي واقتصادي ثم الإداري.
فبالنظر إلى الصيغة التي حررت بها الوثيقة المطلبية، يُلاحظ أي مُتتبع وباحث في الشأن الاجتماعي المغربي بأنها وثيقة مطلبية مدروسة وتشمل جميع مناحي الحياة اليومية للمواطن. بل وإن مستويات تقسيم الوثيقة إلى ثلاث، جعل منها وثيقة موضحة في تحديدها للأولويات. وبالرجوع إلى المطالب الاجتماعية الرئيسية نجدها كما يلي:
هناك المطلب التعليمي، الصحي، الثقافي، البيئي والمطلب الرياضي..
أما المطالب الاقتصادية فقد ركزت أساسا على رفع التهميش والحصار الاقتصادي على المنطقة، ورفع اليد بالاهتمام اللازم لقطاع الصيد البحري الذي يعد ركيزة ورافعة اقتصادية في المنطقة، ثم الاهتمام بالقطاع الفلاحي والشغل والنقل. كما نلاحظ أيضا أن الحراك الريفي يتطرق لمسألة نزع الأراضي تحت مبرر المنفعة العامة، المسألة التي أضحت مسألة جوهرية خرجت من أجلها العديد من القبائل للتنديد بمجرياتها.
الآن، وبعد واقعة صلاة الجمعة حيث خرج الإمام بخطبته التي استفزّت المصلين، وبعد التدخل غير المدروس للمحتجين من داخل المسجد، أخذت الأمور منحى تصعيديا جديدا، الدولة والمحتجين، بحيث وقع الصّدام وبدأت الاعتقالات والتقديم للمحاكمات، ولعل ثقل التهم الموجهة لن تزيد الوضع إلا تأزما.. أمام كل ذلك يظل السؤال القائم حول مدى نجاعة قرار نهج المقاربة الأمنية في مثل هذه الظروف، فعوض تطويق الاحتجاج الاجتماعي السلمي بقرارات استعجالية تضمن العيش الكريم لساكنة المنطقة، صار الوضع الآن حقوقيا أمام أنظار المحافل الدولية ومختلف وسائل الإعلام!؟!
من المعلوم أن أي فعل احتجاجي في العالم إلا ويتأسس على معطيات إما أن تكون اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية، وبالرجوع إلى كل الأفعال الاحتجاجية أو ما يسمى بالتورات التي مرت عبر تاريخ البشرية، سنجد أنها تأسست بداية على وضع اجتماعي وآخر سياسي، ولعل الثورة الإنجليزية (1660/1642) والثورة الأمريكية (1783/1775) والثورة الفرنسية (1799/1789) والثورة الصينية (1949/1911) والروسية البلشفية (1923/1917)، جميعها وغيرها، ثورات كَتَب عنها التاريخ وأسهب في مُسبباتها الاقتصادية الاجتماعي والسياسية الدينية، خير دليل عى ذلك.
الخلاصة:
إن أي دارس باحث موضوعي ومتتبع إعلامي للوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، لا يمكنه التغاضي عن حقيقة وجود فوارق اجتماعية كبيرة، فوارق وَسَمها الفقر المدقع في العديد من المناطق المغربية حيث لا يتجاوز دخل الفرد فيها دولارا واحدا في اليوم، بل ويكاد ينعدم في مناطق أخرى.
وضع اجتماعي هشّ يوجد أمامه فئة تستغل كل الخيرات، وتتماهى في مستواها الرغيد. الأمر الذي لم يعد مقبولا في عصر صارت فيه التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي حاضرة بقوة لفضح المستور.
لقد أضحى المواطن أمام ما يشاهده من فوارق عُرضة للسخرية من كرامته، غياب سياسة تنموية حقيقية تعتمد على موارد اقتصادية بشرية جعلت من كل السياسات المتبعة استثمارات ذات نفع خاص.
لا نريد لأوطاننا الفتن، الكل يسعى إلى العيش الكريم وفقط. وأمام تنامي الأحداث، صرنا في حاجة ماسة لـ:
– استعجال الإصلاح بإقالة المسؤولين المباشرين عن الفساد ومسبّبي الفتنة الحقيقية والحقيقيين…
– استبعاد المقاربة الأمنية..
– الشروع في وضع مخطط استراتيجي تنموي قريب ومتوسط المدى..
– فتح مجال التشغيل والتنمية المستدامة الحقيقية على أرض الواقع، في منطقة الريف وباقي مناطق المغرب التي يطالها التهميش، وهي عديدة..
– المصالحة مع الوطن لأجل الوطن؛ والمصالحة لن تكون إلا بالمحاسبة أولا، ثم بإدماج المواطن في كل عملية تنموية.
– يجب العمل على كسب ثقة المواطن أولا وثانيا وثالثا..
فلنكن صُرحاء، ولنُجب على السؤال التالي: ماذا نريد، أفِتنة هي أنتم موقدوها أم هَبّة ضمير ثم نهضةٌ يساهم فيها الجميع لكي لا يضيع الوطن؟!