منصف السليمي
قبل أيام قليلة كتب السياسي الألماني المحافظ نوربرت لامارت الرئيس السابق للبرلمان الألماني/ بوندستاغ والرئيس الحالي لمؤسسة كونراد أديناور القريبة من الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض، مقال رأي في صحيفة “دي فيلت” البرلينية (عدد السادس من نوفمبر 2022) دعا فيه المستشار أولاف شولتس إلى إيلاء العلاقات مع فرنسا وتسديدها أولوية ملحة في سياسته، معتبرا أنه السبيل الذي يتعين نهجه من أجل “أوروبا قوية”.
لامارت وبحنكة السياسي المخضرم استند إلى خطاب تحذيري من “حقبة عصيبة مقبلة” تحدث عنها مؤخرا الرئيس فرانك فالتشر شتاينماير، ليدعو المستشار شولتس إلى أن تكون مواجهة ألمانيا لتحديات “التحول التاريخي” الذي تشهده أوروبا، بالاعتماد على الشراكة الألمانية الفرنسية. في إشارة إلى نقطة التحول التاريخية في سياسة ألمانيا الدفاعية والخارجية التي أعلن عنها المستشار شولتس ردا على الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية فبراير.
رسالة لامارت لم تكن مجرد صيحة في واد، فقد تلتها إشارات سياسية وجهتها رئيستا البوندستاغ والجمعية الوطنية الفرنسية إلى المستشارية في برلين وقصر الإليزيه، وذلك خلال الجلسة الثامنة للجنة البرلمانية الألمانية الفرنسية التي عقدت بداية الأسبوع الحالي في برلين. وقد جاءت هذه الرسائل أياما قليلة بعد قمة بين الرئيس ماكرون والمستشار شولتس في باريس كان منتظرا أن تبدد الخلافات بين الزعيمين الأوروبيين.
ويبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدا من التفاعلات في العلاقات الألمانية الفرنسية ثنائيا وأوروبيا، خصوصا في ضوء التطورات المتوقع أن تحدث من جهة في ملف حرب أوكرانيا، ومن جهة ثانية على خلفية توجهات إدارة الرئيس جو بايدن في ضوء نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس.
“ألمانيا أولا” ؟
يرصد مراقبون في برلين وباريس علامات غضب فرنسي ظهرت خلال الأشهر القليلة الماضية إزاء بعض الملفات الإقتصادية والعسكرية التي أعلنت عنها برلين. غضب عبر عنه في بعض الحالات الرئيس إيمانويل ماكرون صراحة، ويظل بعضه الآخر في الكواليس وقنوات ثنائية ومتعددة الأطراف. وتشمل الخلافات بالخصوص ملفات الطاقة والسياسة الدفاعية والتسلح والعلاقات مع القوى الكبرى ولاسيما الصين.
ويستخدم ساسة وإعلاميون فرنسيون عبارة “ألمانيا أولا” المستوحاة من شعار “أمريكا أولا” الذي طبع سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب، كتوصيف نقدي لسياسة المستشار شولتس على أنها سياسة وطنية لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الأوروبي.
وكانت القمة الأوروبية الأخيرة في بروكسيل قد أظهرت خلافات فرنسية ألمانية في ملف الطاقة، إزاء مسألة وضع سقف لأسعار الغاز وعلى خلفية برنامج أطلقته الحكومة الألمانية بقيمة مائتي مليار يورو لدعم الأشخاص والشركات في مواجهة الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء، وفي المقابل أعلن ماكرون عن برنامج لتحمل ديون أوروبية بشكل مشترك، بيد أن شولتس رفض الخطوة مشيرا إلى توافر أموال كثيرة من برنامج الدعم الأوروبي إبان جائحة كورونا.
وثمة ملف آخر يثير قلق الفرنسيين منذ بضعة أشهر، عندما أعلنت برلين اعتمادها على الصناعات العسكرية الأمريكية، مثل المقاتلة “إف 35″ المتطورة، لتحديث قواتها الجوية ضمن خطتها التي رصدت لها 100 مليار يورو.
وزاد عليها إعلان ألمانيا مبادرة لإقامة درع جوي بمشاركة 14 دولة في الإتحاد الأوروبي أعضاء بحلف النانو، بالاعتماد على تجهيزات أمريكية وإسرائيلية، بدون فرنسا التي رأت في المبادرة تجاوزا لفكرة السيادة والإستقلال التي تنادي بها كأساس للرؤية الدفاعية الأوروبية.
وتكرس هذه الوقائع في المنظور الفرنسي مؤشرات عملية على تراجع خطط ومبادرات مشتركة ألمانية فرنسية، ضمنها مشروع طائرة يوروفايتر التي ستستبدل ابتداء من سنة 2040 بطائرات مقاتلة متصلة رقميا بالكامل وتعمل بتطابق مع أنظمة طائرات مقاتلة بدون طيار، ضمن نظام Future Combat Air System (FCAS)”اف سي اي اس” الذي يحمل اسم هذا المشروع. ويعني ذلك التخلي عن مشاريع كان مخططا لها مع الفرنسيين منذ عهد المستشارة ميركل، وفق ما تظهره مثلا مؤشرات عن الاعتمادات المخصصة لتمويل مشروعات التسلح في ميزانية 2023.
وفيما يبدو تأكيدا فرنسيا على ضرورة تنسيق السياسة الدفاعية للبلدين، قال الرئيس ماكرون قبل يومين خلال عرضه الاستراتيجية الفرنسية الدفاعية الجديدة من حاملة المروحيات البرمائية ديكسمود، وهي من أكبر السفن الحربية الفرنسية، في ميناء طولون (جنوب)، حيث شدد على أن القوات المسلحة لدى البلدين تكملان بعضهما البعض من خلال مشاركة الخبرة الصناعية والمعرفة التشغيلية والطموحات الاستراتيجية.
وفيما يبدو اعترافا بوجود فجوة في المنظور الاستراتيجي الدفاعي لدى البلدين، في ظل غياب “رؤية دفاعية أوروبية مستقلة” لطالما نادى بها الفرنسيون، اعتبر ماكرون أن الشراكة مع ألمانيا “لا غنى عنها”، لكنه أشار بأن “توازن شراكتنا يعتمد، جزئيا، على نجاح المشروع الأوروبي.. آمل أن نتمكن من تحقيق تقدم حاسم في هذا الصدد خلال الأسابيع المقبلة”.
قرارات “انفرادية”
مؤشرات تراجع درجة التنسيق والتفاهم بين برلين وباريس، حول عدد من القضايا الاستراتيجية تكثفت منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بموازاة تنامي اعتماد ألمانيا على الطاقة والصناعات العسكرية الأمريكية، في ظل تزايد حاجيات ألمانيا لتعويض واردات الغاز الروسي الذي كانت تعتمد عليه بنسبة 50 في المائة، وكذلك في ضوء التغيير الاستراتيجي الذي أحدثته ألمانيا في سياستها الدفاعية، وتخصيص استثمارات ضخمة لتحديث تجهيزات القوات المسلحة.
ورغم بعض الخطوات “التضامنية” على المستوى الأوروبي في تبادل الغاز ومساهمة فرنسا في توفير إمدادات لألمانيا، إلا أن خلافات صامتة ظلت قائمة إزاء ملف الطاقة، ومن ضمنها الخلافات حول مشروع خط أنابيب “ميدكات” لنقل الغاز من إسبانيا عبر فرنسا إلى ألمانيا ودول شمال أوروبا. لكن المشروع القديم الجديد تعثر بسبب عدم تعاون فرنسا التي تريد تكريس دورها في تزويد ألمانيا بالكهرباء المستخرجة من الطاقة النووية.
بيد أن مظاهر التباين بين برلين وباريس إزاء عدد من القضايا الإقليمية، بدأت تظهر منذ بضع سنوات، ومن أبرزها مشروع “ميدكات” الذي بدأ التخطيط له منذ سنة 2013 ونوقش سنة 2019 وتعثر تنفيذه مجددا في صائفة هذا العام.
وثمة إشكاليات أخرى ظهرت في ملفات أمنية واستراتيجية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء وشمال أفريقيا وخصوصا في ليبيا، انتهجت إزاءها فرنسا على إمتداد سنوات ماضية سياسة قائمة على أسلوب “انفرادي” وكان الجانب الألماني يرى فيها تداعيات سلبية على أمن أوروبا ودورها.
شخصية شولتس وأسلوبه
موضوع العلاقات مع فرنسا ليس وحده ما يثير انتقادات لشولتس من ساسة ألمان في المعارضة وحتى من داخل الإئتلاف الحاكم، فقد شملت ملفات أخرى لا تقل أهمية مثل ملف العلاقة مع الصين وسياسة الطاقة. وهذا الأمر يبدو غير مألوف كثيرا عندما يتعلق الأمر بقضايا السياسة الخارجية والدفاعية في ألمانيا، حيث يتم اعتمادها تقليديا بالتوافق داخل البرلمان/ بوندستاغ بين القوى السياسية الرئيسية الحاكمة والمعارضة.
ويعزو بعض المحللين هذه المسألة إلى طابع خاص تضفيه شخصية المستشار شولتس، على عدد من القرارات ذات الأهمية الاستراتيجية، إذ يتسم أسلوبه بالجرأة والتصميم مهما كانت أصوات المعارضين مرتفعة. فيما يبدو مختلفا عمّا ألفه سواء الساسة والإعلام في ألمانيا أو شركائها الأوروبيين، على إمتداد العقدين الماضيين من حكم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل التي كانت تعتمد كثيرا على أسلوب التوافقات حتى مع أشد الخصوم.
بينما يرى بعض مؤيدي المستشار شولتس بأن الرجل، ورغم ما يتسم به من هدوء ورصانة في أسلوبه، فهو يتعرض لضغوط من أطراف عديدة في الداخل والخارج لأسباب تتجاوز الطابع الشخصي، بل أساسا بسبب تصميمه على بعض المبادرات والقرارات التاريخية سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، التي من شأنها أن تُخرج ألمانيا من وضعها، كقوة ناعمة ومتحفظة، وهذا ما اعتاد عليه الشركاء الأوروبيون بالخصوص، باتجاه دور قيادي أوروبيا ودوليا.
محرك ألماني فرنسي لأوروبا أم “زوجين هرمين يتشاجران”؟
الساسة الألمان من الإئتلاف الحاكم كما في المعارضة، يتفقون على ضرورة إعادة اللحمة إلى العلاقات الفرنسية الألمانية. لكن القلق قائم لدى بعضهم، مثل فريدريش ميرتس رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي (معارضة) “من أنه لم يعد هناك خط مسنق بين ألمانيا وفرنسا بشأن القضايا الدولية الرئيسية مثل التعاطي المستقبلي مع الصين أو عواقب حرب أوكرانيا”. وهو يرى أن الحل يكمن في الوقت الحالي، في وقووف ألمانيا وفرنسا معًا لتأمين اتباع نهج أوروبي منسق. وهذا موقف عبرت عنه أيضا رئيسة البونسدتاغ باربل باس خلال اجتماع الجمعية البرلمانية الفرنسية الألمانية. ومن جهتها اعترفت يائيل براون بيفيه رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة الأولى بالبرلمان الفرنسي) بأن ألمانيا وفرنسا لديهما أساليب مختلفة في التعامل مع بعض القضايا، لكنها ترى أنه مهما كانت الصعوبات القائمة في بعض الملفات، فإن لدى باريس وبرلين” الخبرة التي تمكننا من مناقشتها والتغلب عليها”.
ورغم حجم الوقائع السلبية المتعاقبة خلال الآونة الأخيرة في وجه “المحرك الألماني الفرنسي” لأوربا، تبدو الصياغات الديبلوماسية التي يعبر من خلالها الساسة الألمان والفرنسيون، عن طبيعة المشاكل القائمة في العلاقات وسبل تجاوزها، وكأنها تخفيف من حدة وعمق تلك المشكلات وبأن تداعياتها ليست دراماتيكية على مستقبل العلاقات وعلى الإتحاد الأوروبي، في توقيت يتفق معظم المحللين والخبراء على حساسيته بالنسبة لمستقبل أوروبا ووحدتها.
ومن هنا يقرأ محللون ماذا تخفيه حدة الصياغات التي توخاها بعض المخضرمين من صناع القرار السابقين، مثل وزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر (من حزب الخضر، حزب وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك)، عندما تساءل في مقال له بموقع “ذي بيونييه” عما يحدث بين فرنسا وألمانيا، “هل هما محرك الاتحاد الأوروبي أم زوجان هرمان يتشاجران؟”.
وفي نفس السياق تساءلت الكاتبة الفرنسية كريستين كلارك في مقالها بصحيفة “لوبوان” عما إذا كانت العلاقات الفرنسية الألمانية التي يحلو للفرنسيين وصفها بعلاقة “الزوجين” أو الشريكين couple franco-allemand، تعيش حقبة “طلاق”.
بالنسبة إلى يوشكا فيشر، الذي قاد ديبلوماسية بلاده في فترة الغزو الأمريكي للعراق، وكان “المحور الفرنسي الألماني” في أزهى مراحل الانسجام بين الرئيس الراحل جاك شيراك والمستشار غيرهارد شروودر. بالنسبة له فإنه في أوقات الحرب على وجه الخصوص، يصبح وجود اتحاد أوروبي موحد وقوي أكثر أهمية من أي وقت مضى، محذرا من خطورة وجود علاقة ألمانيا وفرنسا “ركيزة الإتحاد الأوروبي” في أزمة.
وبعبارات أخرى تبدو أكثر دراماتيكية ولاذعة تساءل المفكر الاقتصادي الفرنسي جاك أتالي المستشار الأسبق للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، في مقال له نشر على صفحته في الانترنت، عما إذا كان زعماء فرنسا وألمانيا الحاليون، بحكم كونهم من الجيل الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية ومآسيها، يدركون بأن سياستهم يمكن أن تضع سيناريو حرب بين ألمانيا وفرنسا لا ينبغي استبعاده قبل نهاية القرن الحالي.
ورأى أتالي أن الاعتقاد بأن السلام القائم بشكل مسلم به بين البلدين للقرون المقبلة، يمنحهم إمكانية اعتماد سياسات متباينة دون التفكير في عواقب ذلك. محذرا بأن هذا المسار سيكون “خطأ فادحا”، ويتعين التدارك فورا والتوجه نحو تقوية بناء الوحدة الأوروبية، وهو أمر لن يتم برأيه إلا بتقديم تنازلات متبادلة من أجل الحفاظ على ما تحقق في الاندماج الأوروبي طيلة ستين عاما، محذرا من مخاطر تفكك المؤسسات الأوروبية نتيجة الحسابات الخاطئة والاعتماد على “خصومنا أو منافسينا، في واشنطن ولندن وموسكو وبكين ..لأن ذلك لن يؤدي سوى إلى النفخ في إشعال جمر” الخلافات.
وتتجه الأنظار في العاصمتين برلين وباريس، إلى بداية السنة المقبلة حيث يستعد البلدان لإحياء الذكرى الستين لتوقيع اتفاقية الشانزليزيه (باريس) التي وضعت فيها أسس الصداقة الفرنسية الألمانية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وشكلت حجر أساس للوحدة الأوروبية، حيث يشكل الثنائي الفرنسي الألماني محورها الأساسي. فهل سينجح الألمان والفرنسيون في بلورة إجابات استراتيجية في مستوى التحديات التي تواجه الإتحاد الأوروبي؟
في الوقت الحالي لا يُتصور في عواصم أوروبا أنه في حقبة ما بعد حرب أوكرانيا، سيكون بدون توافق ألماني فرنسي دور مؤثر للاتحاد الأوروبي في نظام دولي تتفق معظم التوقعات والسيناريوهات، بأنه سيكون قائما على التعددية القطبية، وبأن قوى صاعدة منافسة للغرب مثل الصين والهند وروسيا سيكون لها مكانة أساسية فيه. وحتى وثيقة الأمن القومي الأمريكي التي قدمتها مؤخرا إدارة الرئيس بايدن، تعترف بملامح مستقبلية لنظام دولي قائم على التعددية القطبية، لكنها تشدد على الحفاظ على الدور القيادي لأمريكا فيه، فيما تزداد الأسئلة حدة حول مستقبل التكتل الأوروبي، وهل سيكون قوة مستقلة أم سيظل تابعا للولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا.
وحتى بالإنطلاق من المؤشرات الأولية لنتائج الإنتخابات النصفية للكونغرس، فإن الأسئلة بدأت تطرح في برلين، عما إذا كانت الفترة الثانية من ولاية الرئيس بايدن ستتسم بما يعرف في السياسة الأمريكية بـ”سياسة البطة العرجاء” نتيجة نفوذ الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب، وإذا كانت ستحمل تراجعا في الدعم الأمريكي لأوكرانيا وتراجعات في سياسة المناخ، فسيعني ذلك مزيدا من الأعباء على ألمانيا، كما يحذر من ذلك النائب الألماني عن حزب الخضر، أنطون هوفرايتر، مسؤول لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي.
نشر بشراكة مع “DW” العربية