محمد شقير
ما زال المشهد السياسي بالمغرب يعاني من تفشي النزعة الشعبوية التي أدت إلى تفشي ميوعة الخطاب السياسي وتنابز بعض زعماء الأحزاب بالألقاب والنعوت القدحية . لكن يبدو أن الأمر أصبح لا يقتصر على ذلك ، بل تعداه إلى تهجم بعض القيادات الحزبية على بعض المؤسسات الدستورية ، حيث ظهر ذلك مؤخرا من خلال تهجم الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإلاه بن كيران على رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان وانتقاد مذكرتها المتعلقة بمقترحات حول تعديل مدونة الأسرة ، ليعقبه تهجم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إدريس لشكر على ما تضمنه تقرير المجلس الأعلى للحسابات بشأن تجاوزات تتعلق بالدعم المالي المقدم للأحزاب في انتهاك صارخ لحرمة هذه المؤسسات الدستورية.
الحرمة السياسية للمؤسسات الدستورية
نص دستور فاتح يوليوز 2011 ، الذي يعتبر أول دستور في عهد الملك محمد السادس وثمرة لحراك شعبي، على مجموعة من المؤسسات الدستورية التي كانت ثمرة لتوافق إرادتين ملكية وشعبية. وهكذا تنص المادة 161 من هذا الدستور على اعتبار “المجلس الوطني لحقوق الانسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة. تتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الانسان والحريات وحمايتها وبضمان ممارستها الكاملة والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية .في حين خصص الدستور بابا خاصا ومستقلا للمجلس الأعلى للحسابات من خلال الفصل 96 نص فيه على ما يلي : “يتولى المجلس الأعلى للحسابات ممارسة الرقابة العليا على تنفيذ القوانين المالية. ويتحقق من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصروفات الأجهزة الخاضعة لرقابته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية قيامها بتدبير شؤونها، ويعاقب عند الاقتضاء على كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات ، بينما نص الفصل 97 على ما يلي : “يبذل المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان وللحكومة في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون.ويرفع إلى الملك بيانا عن جميع الأعمال التي يقوم بها”.
وبالتالي، فهذه النصوص الدستورية تضفي على هاتين المؤسستين الدستوريتين حرمة سياسية خاصة لا ينبغي انتهاكها بأي عنجهية شعبوية وأن يتم التعامل معها من طرف الفرقاء السياسيين بكل الاحترام والتوقير الواجب لهما ، خاصة وأن المؤسسة الملكية كأعلى سلطة سياسية ودينية هي من عينت كل من رئيستي هذين المجلسين الدستورين من خلال استقبال الملك للسيدتين أمينة بوعياش زينب العدوي وتعيينهما على رأس هاتين المؤسستين بظهيرين ملكيين.
انتهاك الحرمة السياسية للمؤسسات الدستورية
لم يتورع بعض رؤساء أحزاب وطنية كبرى في مهاجمة مؤسسات دستورية، تمثلت في انتقاد عبد الإله بن كيران لمقترحات المجلس الوطني لحقوق الأنسان بشأن تعديل مدونة الأسرة، ومهاجمة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر لتقرير المجلس الأعلى للحسابات.
مهاجمة بن كيران للمجلس الوطني لحقوق الانسان
في إطار إصلاح اختلالات مدونة الأسرة وفي إطار النقاش السياسي الدائر حول مدونة تعديل مدونة الأسرة التي عينت لها لجنة من طرف الملك لاستقبال مقترحات كافة الفرقاء السياسيين ومختلف الفعاليات الاجتماعية ، هاجم بنكيران خلال الجلسة الافتتاحية للدورة العادية للمجلس الوطني لحزبه، بمدينة بوزنيقة في 13 يناير 2024 رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أمينة بوعياش، ووصف مذكرة المجلس بـ”المارقة” التي ” لم تراع المرجعية الإسلامية للأمة ولا التأطير الملكي ولا التأطير الدستوري ولا مصلحة الأسرة” وتابع أن “بوعياش ومن ينتمي لتيارها، الداعين إلى المساواة الميكانيكية بين الرجل والمرأة”، انطلقوا مهزومين بعدما نظموا لقاء في مدينة الدار البيضاء للحديث عن المساواة في الإرث فلم يحضره أحد”. مطالبا رئيسة المجلس إلى مراجعة مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قائلا إن ما تضمنته ” لا يهدد الأسرة فقط بل المجتمع”. وردا على التهجم البن كيراني نشر أحد أعضاء المجلس في تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي ، أن النقاش حول مدونة الأسرة “يمر عموما في جو من النضج المجتمعي، يؤكد أن المجتمع المغربي مجتمع التوافقات حول القضايا الخلافية الكبرى، باستثناء “كلام” غريب اختزل مذكرة -ليست مقدسة طبعا- لمؤسسة وطنية ودستورية، ووصفها بالمذكرة المارقة، إضافة إلى تفريد التهجم وتشخيصه، مع ما يخلقه هذا الهذيان من بيئة طبيعية للكراهية ولم لا إلى العنف…كل هذا واللجنة المكلفة بمراجعة المدونة لازالت في مرحلة الاستماع والتوصل بالمذكرات، ولم تبلور رأيها ومقترحها بعد والذي سيتولى رئيس الحكومة لاحقا – بداية أبريل- عرضه على الملك قبل إحالته كمشروع قانون على السلطة التشريعية للتداول بشأنه داخل قبة البرلمان من أجل اعتماده…
بالتالي فنحن في مرحلة الخلاف والإختلاف وتعدد الآراء والمواقف والتوجهات، والمرجعيات المتنوعة والمتعددة والمتناقضة والمتعارضة ، فإن تدبير كل هذا لا يتم في سياق ثنائية المؤمن والكافر، والوطني والخائن” . كما اعتبر المصطفى المريزق الفاعل الحقوقي وعضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان تصريحات عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ومهاجمته للمجلس الوطني لحقوق الإنسان ورئيسته آمنة بوعياش، بسبب المذكرة المقدمة حول تعديل مدونة الأسرة تشويشا على عمل الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، رافضا “ابتزاز الدولة باسم الدعوة الدينية”، مؤكدا أنه لا يمكن نعت مذكرة المجلس بعدم الانضباط إلى المرجعية الإسلامية، لأن الملك محمد السادس هو الفيصل الذي سترجع له كلمة الفصل، باعتباره أمير المؤمنين. وبالتالي فتصريحات “زعيم “البيجيدي” تحريض على العصيان، منتقدا مهاجمة المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمس بمصداقية المؤسسة، وتشويه وتبخيس للدولة المغربية ولمكانتها الحقوقية، خاصة وأنها ترأس المجلس الأممي لحقوق الإنسان. ليخلص إلى أن “ما صرح به السيد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، أعتبره شخصيا تهجما مجانيا على مؤسسة وطنية محترمة داخل المغرب وفي المنتديات والمؤسسات والمنظمات الدولية، وتسفيها لشخص رئيستها المناضلة الحقوقية والمرأة العصامية المشهود لها بالكفاءة والنزاهة والاحترام والتقدير داخل الوطن وخارجه، كما لا نقبل أن نسمح بنعت مذكرة المجلس بالمارقة (أي الخارجة عن القانون، ونظامها على مقاس قبعة..)، وهي المؤسسة التي عينها جلالة الملك محمد السادس وتقدم تقاريرها إليه كل سنة وبشكل منتظم”.
غير أن هذه الردود لم تمنع عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، من العودة لمهاجمة مقترحات المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص تعديل مدونة الأسرة، بل تعدى ذلك لمهاجمة حزبي الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، والتقدم والإشتراكية لخروجهما للدفاع عنها معتبرا في الكلمة التي ألقاها في المهرجان الوطني حول اصلاح مدونة الأسرة المنظم من طرف حزب العدالة والتنمية “أن دافعهم في ذلك محاربة الدين.” مشددا بأن المجتمع المغربي المسلم لا يتفق مع هذه المقترحات، وإذا تم استفتاء المغاربة على هذا الموضوع سيتبين ذلك واضحا، مضيفا “وإذا أردتم سننظم مسيرة مليونية رافضة لهذه التعديلات”. وأمام الهجوم الكاسح الذي شنه بنكيران رئيسة المجلس الوطني لحقوق الانسان ورئيسي الحزبين اليساريين ، خرج رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، رشيد حموني، للرد على زعيم الإسلاميين في “تدوينة” اعتبر فيها تصريحاته “الأخطر على مجتمعنا المغربي وتجربتنا الديمقراطية الناشئة”.وأن “تصريحات الرجل، الذي تَــحَمل يومًا ما مسؤولية رئاسة الحكومة المغربية بما كان يُفترَضُ أن يجعل منه رجل دولة، هي تصريحاتٌ مُحرِّضَةٌ على الفتنة والانقسام المجتمعي، وتنطوي على تهديدٍ صريح بـ’الانتفاض’ ضد أيِّ إصلاحٍ تحديثي لمدونة الأسرة”.مستدركا بأن “من حق الرجل، من منطلقِ الاختيار الديمقراطي الذي أقره الدستور أنه لا رجعة فيه، أنْ يعبر عن مواقف غارقةٍ في المحافَظة إزاء قضية المساواة أو أيِّ قضية مجتمعية أخرى، حتى لو كانت خلفية ذلك محاولةُ استعادة أمجادٍ غابرة، علماً أن التاريخ لا يُعيدُ نفسه سوى بشكلٍ كاريكاتوري. لكن الذي ليس من حق السيد ابن كيران هو الافتراءُ والتحريف، بل والتحريض الصريح، في حق مواقف أحزابٍ سياسية وطنية تشتغل في إطار المرجعية الدستورية الوطنية وثوابت الأمة، منذ عشراتِ السنين، وفي حق مؤسسة وطنية دستورية أساسية هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان”… وبلغ به الانسياق الكلامي إلى حدّ إخراج كل من له مرجعية تحديثية من دين الإسلام الحنيف، وإلى تقسيم العالم إلى بلاد الإسلام وبلاد الكفار، وتصنيف المغاربة على أساس فهمٍ شخصي منه للإيمان، من خلال إيـــهام الناس بأن من هو ضد المحافظة هو ضد الإسلام والقرآن الكريم!!”.
مهاجمة ادريس لشكر لتقرير المجلس الأعلى للحسابات
طبقا للاختصاصات المخولة للمجلس الأعلى للحسابات دستوريا في افتحاص مالية المؤسسات العمومية سنويا، قدم هذا الأخير تقريرا مطولا ومفصلا عن الحسابات المالية التي قامت بها جميع الاحزاب السياسية خلال سنة 2022، تضمن ملاحظات ومؤاخذات بالجملة في حق أغلب الأحزاب السياسية المُتصدرة للمراتب الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة، أبرزها عدم إرجاع مبالغ دعم لم تُستعمل لخزينة الدولة، وعدم تبرير صرف الدعم العمومي بالوثائق القانونية اللازمة، وتشغيل مستخدمين بمقرات وإدارة الأحزاب دون عقود عمل، وعدم احترام المساطر المنصوص عليها في القيام بدراسات وأبحاث حزبية ممولة من المال العام. وبهذا الصدد كشف التقرير أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد تعاقد مع مكتب دراسات، بمبلغ 1.83 مليون درهم، لإنجاز 23 دراسة في المجال الاقتصادي والإصلاح الجبائي، والمقاولات الصغرى والمتوسطة ، وقطاع النقل واللوجستيك والقطاعات المنتجة ونجاعة الاقتصاد الوطني والاجتماعي والمؤسساتي والبيئي. غير أن الحزب، يقول التقرير، اقتصر على الإدلاء بـ21 وثيقة عبارة عن عروض أو مذكرات موجزة تتضمن معلومات واقتراحات عامة متوفرة للعموم، لا تستند إلى منهجية علمية واضحة، كما هو معهود عند إنجاز الدراسات.
وقد دفعت هذه الملاحظات إلى شن الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر، لهجوم عنيف على المجلس الأعلى للحسابات، حيث حذر في كلمة ألقاها خلال المؤتمر الإقليمي لحزبه بسيدي البرنوصي- سيدي مومن بالدار البيضاء المنعقد يوم الأحد 3 مارس 2024، من أن تتحول هيئات الحكامة إلى هيئات للتحكم، واصفا ما ورد في تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول حزبه بأنه “محاولة للاصطياد في الماء العكر”.منبها بأن أي “محاولة للاصطياد في الماء العكر نجيب عنها بأننا في دولة القانون والمؤسسات: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.. والقانون فوق الجميع، يرتب وسائل المتابعة والاتهام”. ودون اعتبار لأي حرمة سياسية للمجلس أو أخذ بأدنى اعتبار لمكانة المجلس الدستورية ، خاطب المجلس الأعلى للحسابات قائلا: “حتى لا تقولوا إن (كل ولاد عبد الواحد واحد)، إذا لكم اتهام وجهوه لنا مباشرة، وإذا كان لديكم تنبيه أو إنذار وضحوه، وإذا كان لديكم استفسار فكل الاستفسارات أخذتم بشأنها الأجوبة”.مستطردا في عنجهية شعبوية قائلا : “نحن من دافع بإعطاء الصلاحيات للمجلس الأعلى للحسابات” ليردف ذلك بالتدخل في اختصاصات المجلس والتبخيس من عمله الرقابي متحديا “أن يقول لنا هذا المجلس أية تقارير أنجزت بشأن 99.99 في المائة من ميزانية الدولة.. شركات الدولة والمؤسسات العمومية وحجم الاقتراضات التي تؤخذ باسم الشعب المغربي وكل الصفقات الحقيقية. مشيرا إلى أن “الميزانية التي تعطى للأحزاب مجتمعة لا ترقى إلى ميزانية المجلس الأعلى للحسابات، وأن ميزانية هيئات الحكامة كلها دون استثناء تتجاوز بأضعاف ميزانية الأحزاب السياسية، ومع ذلك لا تقدم تقارير حولها ودراسات”. محذرا من “إلهاء الرأي العام عن قضاياه الحقيقية بخلق هذا العبث” منتقدا ما اعتبره تبخيسا للأحزاب، “إذا أردتم التبخيس يصل لهذا المستوى أعلنوا أن البلاد يمكن أن تسير بلا ديمقراطية”معتبرا أن “التقارير المنشورة حول التخليق في الآونة الأخيرة، اصطياد في الماء العكر” محذرا من تحول ”هيئات الحكامة لهيئات للتحكم”. وقد بلغ تهجم لشكر إلى حد التشكيك في طريقة عمل قضاة المجلس ومؤاخذات مجلس زينب العدوي كون الدراسات التي قام بها “الاتحاد من المال العام تفتقد لمناهج وأدبيات البحث العلمي، حيث تساءل لشكر في هذا الصدد عن “الجهة التي أوكل لها البحث في علمية الدراسات من عدمها؟ وكيف توصلت بأنها غير علمية؟”.
من هنا ، يلاحظ أن مثل هذه التهجمات الشعبوية الصادرة عن رؤساء أحزاب كبرى داخل المشهد السياسي كبن كيران ولشكر، لا تقتصر فقط على تمييع الخطاب السياسي والتنابز الشخصي بين القيادات الحزبية ، بل تعدت ذلك إلى التشكيك في عمل مجالس دستورية لها حرمتها السياسية ووضعها الاعتباري ، من خلال استخدام هذه القيادات لعبارات تخلو من اللباقة السياسية ، وتفتقد إلى أدبيات التوقير السياسي التي ينبغي أن تتمتع بها هذه المؤسسات الدستورية ، حيث المس بشخص رؤسائها ، وهن للمصادفة سيدتان لهما تجربة طويلة في مجال اشتغالهما وتخصصهما ، و التهجم على تقاريرها في ملتقيات حزبية تصيدا لعنتريات سياسية وبحثا عن تموقعات شخصية في الوقت الذي كان يجب أن يتم ذلك من خلال تعامل مؤسساتي يتم فيه إرسال ملاحظات كلا الحزبين للمجلسين للنظر بشكل يتوافق مع قواعد صرح مؤسساتي طموح ضمن ملكية دستورية واجتماعية تقوم على التعدد والاختلاف.