محمد كوزغار
تابعت، كما تابع غيري وهم كُثر، مداخلة العالم د. مصطفى بنحمزة، بالندوة التي احتضنتها دار الحديث الحسنية (من تنظيم “مركز سوس ماسة للدراسات القانونية والقضائية المعاصرة”، الذي تشرف عليه الزميلة النائبة زينة إدحلي)، والذي أصر على أخذ الكلمة بصفته هذه، رغبة في عدم تحميل-والقول له- المؤسسات الرسمية التي ينتسب إليها أو يترأسها، وِزر كلامه…
لا أريد أن أتوقف كثيرا عند ملاحظات شكلية، وإن كان الشكل أخو الجوهر…لكن راعني كيف أن العالم، المفترض فيه الرأفة وأخذ الناس بالحلم والابتعاد عن الفظاظة (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك… الآية)، ينْهر مُسير الجلسة (ذ. عبد الله الترابي) لمجرد تذكيره بالوقت، وإلحاحه في أن يكون جميع من أخذوا الكلمة على قدم المساواة…وزاد على ذلك، حين ادعى، ولوحده، معرفة الواقع (فقه الواقع)، وأنه قريب من الناس، مشاغلهم ونبضهم، وأنه لا يكف عن الجواب على أسئلة مَدارها الزواج والطلاق…فيُفتي تارة بجواز التعدد، وتارة أخرى يوصي بتجنبه. ولم ينْس عالمنا أن يُذكر الحضور، ومن انْتهى إليهم سماع ومشاهدة المداخلة، من أنه يشرف على إيواء وإطعام الأبناء “من خارج مؤسسة الزواج”، وأن عمله هذا متصل في الزمن، ويعود إلى عشرين سنة خلت (لكن هؤلاء الأطفال ليسوا فقط في حاجة إلى أكل وشرب، بل أولا إلى نسب، وهو ما لم يتعرض له عالمنا)…ولم تتوقف “تزكية” الذات (ولا تزكوا أنفسكم…الآية)، عند هذه الحدود، بل ادعى عالمنا أنه يعرف الموضوع، أكثر من غيره، فالآخرون يدورون في فلك حاضرتي الرباط والبيضاء، ومكاتبها المغلقة، ولا اتصال لهم بنساء البادية ولا بغيرهن…وأن منتهى علمهم، وإدراكهم هو حاصل لقاءات خاصة بهم/بهن، مما لا يقوم معه “التصور الصحيح” لفهم الواقع، الذي يُعد عتبة أساس لسليم التشريع…
نقاط ثمانية، وردت في مداخلة عالمنا الجليل، أود أن أبدي بخصوصها، بعض ملاحظات، أتغيى منها، المساهمة في هذا النقاش المجتمعي، الذي لا نرغب في أن يحتكر تعابيره أحد، لا من منطق ديني، ولا من مرجعية حقوقية، تضيق في أحايين فتصبح دعوى “نسْوية” لا أفق لها، وهي:
- “إلى متى سنستمر في مناقشةالمدونة، إلى ما لا نهاية؟”. هذا هو الاستفسار الذي طرحه عالمنا، باستنكار شديد، ونريد أن نذكر عالمنا، بعناصر قد تُبدد له استنكاره، وستُعينه، لا محالة، لتلمس الهداية وطريقها، وهي:
أ- أن الرسالة الملكية السامية، الموجهة إلى السيد رئيس الحكومة، قد استفاضت في بيان الأسباب الموجبة لمراجعة المدونة، وما حرك دعوة الإصلاح هذه، من بواعث موضوعية، وأسباب قمينة، ليس أقلها “تجاوز بعض العيوب والاختلالات التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، وموائمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني” (مقاطع من الرسالة الملكية)؛
ب- أن التجديد، هو الذي يعطي للنصوص حياة وديمومة، فجُمود هذه الأخيرة، وتخلفها عن الإحاطة بواقع متغير، يعطل وظيفتها، ويعمق البوْن بينها، وبين ما رغبت في تقديم حلول له، وهذا الحكم ليس قاصرا على ما يضعه البشر من نُظم وقوانين، بل يمتد إلى الناموس الإلهي، الذي يصبح “صالحا لكل زمان ومكان” (نقلا عن العلامة علال الفاسي: الشريعة صالحة لكل زمان ومكان)، عبر بوابة “التجديد” (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، الحديث)، كما يتأتى أيضا، عبر “الاجتهاد” بما يقدمه من إجابات مُحينة لواقع متغير، ولأوضاع لم يعد من المناسب تحميلها وإلزامها بفتاوى غابرة؛
ج- أن تعديل المدونة، لم يأت بعد وضعها مباشرة، أو بعد مرور وقت هين يسير، غير كاف لتبوح بما لديها من وصفات لأدواء الأسرة والمجتمع، بل تُرك الزمن ليفعل فِعلته، حتى يتحقق إدراك مراميها، ويتم السماح بميلاد الاجتهاد القضائي ورسوخه، ولكي تواكب بما يتطلبه أي إصلاح من كادر بشري مؤهل، ومن شروط مادية وبنية استقبالية ملائمة…لهذا، فإن دعوة المراجعة أتت بعد عشرين سنة، وهي مدة معقولة للتقييم والتساؤل، وإعادة التفكير في تقويم اعوجاجات النص، التي ليست فقط قضائية، كما يصفها عالمنا، بل هي أكبر من ذلك بكثير، ويكفي العودة إلى الرسالة الملكية لاستجلائها…؛
د- أن واضع النص، أو المساهم فيه، ليس “أبا” له، يمارس عمل الوصاية والحجر عليه، وينْهر الناس من الاقتراب منه، بعلة أنه جيد، وأن ساعات طوال استغرقها الوصول إليه، وأن أسماء وزانة هي التي أشرفت عليه، وأنه، في النهاية، مُنتهى العِلم وسَهِم إصابته (نقلا عن مؤلف سيدي العربي الفاسي “سهم الإصابة في حكم طابة”). لهذا، فالنصوص القانونية، تراجع وتعدل، بالرغم من التقدير الكبير للحظات وضعها، وكذا لواضعيها، والبهاء الكبير الذي انتقوا به عباراتها، وصيغت بها أحكامها. بل إن هذا القول، يسري أيضا على الاجتهادات الفقهية، أفلم يكن الإمام مالك شيخا للإمام الشافعي؟ وألم يكن هذا الأخير، شيخا للإمام أحمد بن حنبل؟ فكان الأجدر، واستحضارا “لفضل الشيخ” وأُبوته المفترضة، أن لا يزاحمه مريدوه في الاجتهاد، وأن يكتفوا بما تعلموه وأخذوه عن شيخهم، وما انتهى إليه اجتهاده…وهذا ما لا يقول به أحد؛
- “جميع الأطياف شاركت في المدونة…يجب ألا ننتهي إلى الخصومة، والمحافظة على الوئام الاجتماعي”. لماذا هذه الملاحظة اليوم؟ ولماذا “استعادة” هذا الكلام في مناسبة مراجعة المدونة، والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء؟ هل عالمنا يريد أن يقول لنا شيئا “تلميحا” لا “تصريحا”؟ هل له عِتاب ما على لجنة مراجعة مدونة الأسرة، في صيغتها الحالية، وأنها لا تُمثل طيفا من الأطياف التي يعتقد شيخنا بضرورة تمثيله؟ أم هو عتاب شخصي، لأن “صَوته” ليس ممثلا في اللجنة، التي يحضر أشغالها السيد الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى؟ ثم ما هو مرد هذه التخوفات، والحديث عن “الخصومة”، وضرورة “المحافظة على الوئام الاجتماعي”؟…لماذا يصر عالمنا على تذكيرنا، بمَكر العبارة، بانقسام المجتمع في سنة 2000، وأزمة لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية في طبعتها الأولى، التي ترأسها السيد إدريس الضحاك (الذي أثنى عليه عالمنا كثيرا)؟ لماذا؟ لا جواب لي، ولأني أحسن الظن بعالمنا، فإني أكتفي بالسؤال…لعل يوما نلقى منه الرد والجواب؛
- “النموذج المغربي تحقق…النموذج الذي يتوافق عليه الجميع تحقق ولا شك”. نعم، تحقق النموذج المغربي (في وضع النسخة الأولى لمدونة الأسرة سنة 2004)، المبني على الإشراك والإنصات، وعلى الحوار والتداول، فتم تدبير هذا الملف، بنَفَس الملفات كلها، فحازت البلاد سبِقا لم يتحقق لغيرها، مبني على “عبقرية الاعتدال”، أي الانتهاء إلى أرضية جامعة، يجد فيها كل طرف نفسه، بتوفيقية غير مُجحفة، لا تؤدي إلى وجود منتصر أو منهزم. في هذا الجو وُلد النموذج المغربي، وهو نموذج لا يدين بوجوده إلى اليوم، بل هو نتاج حكمة الأجداد، تلقاها الخلف عن السلف، فأبدع في صيغها مع ثبات في روحها وجوهرها…لكن حضور مثل هذا القول في كلمة عالمنا، يفهم فيه بمنطق المخالفة، أننا بصدد “نموذج آخر”، غير النموذج المتحدث عنه؟ فمن أين استقيت تخوفات عالمنا، ومن أين تستمد محاذيره شرعيتها بل ووجودها؟ بكل صدق، لا أعرف مرد هذا الكلام، فالرسالة الملكية واضحة في رسم مرجعية الإصلاح وحدوده الكبرى (لن أحلل حراما، ولن أحرم حلالا)، وغاياته السامية، والنموذج المرجو في النهاية. والإصلاح يتم بمنطق للمؤسسات لا الأفراد، وكل مؤسسة ممثلة في لجنة مراجعة المدونة، إلا ويوجد مبرر موضوعي لحضورها…فهل هذا الحضور يخدم نموذجا آخر غير مغربي؟ في حدود علمي لا. أما وأن عالمنا “يلمز” إلى تصريحات سابقة لأعضاء في اللجنة (السيد وزير العدل عبد اللطيف وهبي، بخصوص موضوع “رضائية العلاقات”، والسيدة أمينة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بخصوص موضوع “المساواة في الإرث”)، فليطمئن فؤاد عالمنا، فتلك مواقف شخصية تركها الجميع ورائه، فالرسالة الملكية طالبت أعضاء اللجنة ليس بمواقفهم الشخصية ونتاج خبراتهم، ولكن بنتائج وخلاصات جلسات الانصات والاستماع الواسعة، والإشراك الوثيق للمؤسسات المعنية بموضوع الأسرة بشكل مباشر؛
- “المستجدات الوحيدة في المغرب…هي تغير في عدد النساء اللواتي أصبحن عالمات…عدد الحافظات…عدد القارئات…المرأة ظاهرة بتدين قوي جدا”. هل هذا هو الملمح الوحيد للتغيير الذي حدث في المغرب، على مسافة عشرين سنة من وضع المدونة؟ هل هذه هي الحقيقة المجتمعية التي على أساسها ينظر عالمنا إلى المجتمع، الذي يدعي معرفته معرفة صميمة، ولا أحد بإمكانه منافسته فيها؟ هذا التغيير الذي تحدث عنه عالمنا، مُحبب لا ننكره ولا نبخسه، بل إننا نحْسبه ثمرة طيبة لفسيلة سياسة دينية رشيدة، ترعاها الإمامة العظمى، بإسلام مالكي وسطي، عقيدته أشعرية وتصوفه يتم على طريقة الجنيد السالك…لكن هل هذه هي الحقيقة “الوحيدة” (والوصف له) التي أدركها عالمنا، وهو يسمع إلى نبض المجتمع، ويشارك الناس همومهم في مجالسه العلمية، وما تستفسر عنه “العامة”، عالمها المنتمي إلى “الخاصة”؟ لا سيدي…إن المجتمع المغربي، يعرف ارتفاعا كبيرا لحالات الطلاق، وتضخما في أعداد زواج القاصرات، وحالات للتعدد لا تراعي شرع الله ولا قوانين الجماعة…كما تعيش المرأة أوضاعا اقتصادية واجتماعية، لا تعكس مكانتها وقيمتها ومستوى الرخاء والنمو الحاصل في بلادنا، بل إن المرأة لا زالت تعاني من خطاب للدونية الممارس عليها، ومن الكليشيهات الجاهزة التي تأبى مفارقتها، ومن العنف، لفظيه وجسده، مع ما يحدثه ذلك من ندوب وجروح، يداوي بعضه الأطباء، والباقي، وهو الأهم، يتحول إلى عُقد نفسية تلازم المرأة، فتؤبط هِمتها، وتحط من قدْرها، وقُدرتها على المبادرة وعلى الإبداع…وعلى النهوض مجددا؛
- “نحن لا نتحدث عن مغرب افتراضي…النساء في الزلزال الأخير نموذج…هل رأيتم امرأة لها قول في دينها غير ما يجب أن يكون عليه القول؟ كُلهن راضيات مُسلمات، وهذا هو عمق المجتمع المغربي”. كلام فيه كثير من الخلط، لأشياء مجزأة لا رابط بينها. بداية، لا أحد يتحدث عن مغرب افتراضي، إن الجميع ينطلق من الواقع، ومن معطياته، فالكل يستشهد بهذا الواقع، صورته، احصائياته، نجاحاته، اخفاقاته، عدْله ومظْلمته. فالمغرب الافتراضي، إن وُجد، هو المغرب المُمكن المأمول (والعبارة لتقرير الخمسينية)، الذي نسعى للوصول إليه جميعا، مغرب العدالة الاجتماعية والمجالية، وحكم القانون، والمساواة في توزيع العائد من نمو البلاد، والاستفادة من كل الفرص المتاحة بمعايير الاستحقاق والكفاءة، والمغرب الذي تقترن فيه الحقوق بأداء الواجبات، وترتبط فيه المسؤولية بالمحاسبة…إننا نفترض مغربا، لكي يكون لنا أمل وهدف وتصور للمستقبل، فما نضعه اليوم من سياسات وبرامج له أمد منظور، يخدم مغربا غير المغرب القائم، وإلا لماذا نجتهد في تغيير الأوضاع إذا كانت كلها جيدة، فيكفينا ما وجدنا عليه آبائنا، أما وأن هذا الواقع عصي، متغير، طافح بالأزمات، فإننا باجتهادنا، ودعوات صلحائنا، وبتوفيق من ربنا، نطمح إلى الأفضل. وهذا الطموح ليس منفصلا عن الواقع، كما قيل، بل إنه مُنطلقه وغايته؛
لكن، ما علاقة احتساب النساء أمام مُصاب الزلزال بالمدونة؟ إن إيمان المغاربة بالقَدَر وتسليمهم به، هو جزء من إيمانهم واعتقادهم (الإيمان بالقَدَر خيره وشره)، وليس لأحد أن يزايد عليه. فالمصاب كان جللا، والخطب كان عظيما، ولا ملاذ فيه ولا في غيره، إلا إلى الباري عز وجل، رحمته ولطفه وتدبيره سبحانه وتعالى. فما علاقة ردة الفعل الطبيعية هذه بموضوعنا؟ لا أجد رابطا لها…إن الدعوات المُخالفة لقول عالمنا، لا تنطلق من استبعاد النص الشرعي، بل من التساؤل عن قدرة الاجتهاد، وما تتيحه فضيلة التأويل، من إمكانات للوصول إلى رحابة شريعتنا السمحة، وما تقدمه مقاصدها من مساحات للتفكير، وأن لا يكون العمل الفقهي مضيقا لواسع، متشددا في معرض الاعتدال، مؤمن بقطعية النصوص، متجاهل لما تتركه لإرادة المخْلوق في تبيئتها وتكييفها…كما أن لنا في التاريخ الإسلامي، صورا لتعطيل الحدود، فهل كان السلف أيضا يخالف شرع الله ومنهاجه، أم أنه ينظر إلى الواقع ويقيم في ضوئه للزوم الأحكام أو ندبها أو إباحتها…إن العقل الإسلامي الذي يدعو إليه النص لا تحجر فيه، وأن التحجر أتى من الفقه الذي أسبغت عليه قداسة، تتجاوز ما لمصدره من قدسية…فهل قول الله هو المقدس؟ أم كما فهمه فلان أو علان، وجعله قوام مذهبه وأساس دعوته؟ إننا مع الرجوع إلى إسلام الأصول، إلى ينابعه الصافية، لا إلى القراءات التاريخية له، وإلى الفتاوى الذي كان له زمكان ما…
- “امرأة تدعوني…فاستجبت لها”. هذا قول عالمنا، تعليقا على دعوة رئيسة الجهة المنظمة، لحضوره فعاليات الندوة، فهل سمع عالمِنا دعاوات نساء أخريات؟ أم صم أذنيه عن دعوتهن وصرختهن؟ إن نساء عديدات يدعونك، عالمنا، لكي تعيد نظرك الديني في وضعيتهن، لكي تناصر مظْلمتهن، لكي توقف العنف الممارس عليهن، ولكي تدعو الذكور لكي يحترموا الميثاق الغليظ الذي يربطهم، وأن يديموا المحبة والسَكَن إليهن…ماذا عن دعوات النساء التي توقف أزواجهن عن دفع نفقات أبنائهم؟ ماذا عن دعوات النساء اللواتي يقذف بهن إلى سوق الرقيق الأبيض؟ ماذا عن النساء اللواتي يجتزن يوميا امتحان التحرش والمساومة على العرض؟ ماذا عن النساء اللواتي يحرمن من حقهن في حضانة أبنائهن بمجرد زواجهن…؟أليست هذه دعوات نساء أيضا، لكنها دعوات مظلومات، مقهورات، لا يعرفن من هو “الظالم”، هل هو نص المدونة، أم الجهل بالمساطر القضائية، أم التأويل القضائي الذكوري، أم نظر الفقهاء المؤبد للولاية ولو كانت لظالم…أم ماذا؟ هذه هي الدعوات التي نتمنى أن يستجيب لها علمائنا، الأوصياء على ديننا وتديننا، حراس معبد الأخلاق والطهرانية…إن المرأة ليست بيت الداء…ولكن الداء منتشر في كل مكان، وحبذا لو يعالج داء الآخرين قبل أن يعالج دائها، لأنه لو صلحت القاعدة، وساد الفهم السليم للدين، ووضع الناموس للعائلة دون تمييز…لاختفت، بقدرة قادر، مشاكل المرأة التي عانت منها، بالرغم من أنها ليست مصدرها؛
- “…شكون لي ضرو خاطرو؟”. هذا هو الاستفهامالذي انتهى إليه عالمنا، وهو يسرد على مسامع الحضور، قصصا يعرفها، عن رضى الزوج والزوجة الأولى، والزوجة الثانية، بالتعدد، وأن هذه الأخيرة، قبلت أن تكون زوجة لزوجها، وخادمة لزوجته الأولى…ويأتي بهذا الكلام، بعد أن تساءل عن مصير “العوانس” (اللواتي قدر عددهن بثمانية ملايين)…هذه السطحية التي يسوق بها عالمنا مقاربة موضوع التعدد، مع الأسف، بعيدة حتى عن جوهر القرآن، الذي جعل “التعدد”، استثناء، وقرنه بشرطية العدل، قبل أن ينتهي القرآن إلى استحالة تحققه (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم…الآية)، وحتى الرسول الكريم انتهى إلى هذه الحقيقة (والآية المذكورة، نزلت، كما يقول المفسرون، في عائشة)، فقال (ص) “اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك”…وبالتالي، ألا يمكن التفكير في هذا الهم الذي يثقل كاهل عالمنا، خارج حل التعدد، كما يقترح؟ وهو يقينا يعرف أن الشباب من الذكور لا يقبل على الزواج لأسباب اقتصادية واجتماعية، وأن جزءا من النساء، بحكم مواقعهن الاجتماعية والاقتصادية أيضا، لا يجدن من يرتبطن به من مستواهن…وبالتالي، ألا يحتاج موضوع التأخر في الزواج أو عدم حصوله إلى مقاربة أخرى علمية (سوسيولوجيا تحديدا)؟ عوض أن يكون الفزاعة التي تستدعي حل التعدد ولا حل آخر غيره…وإذا كان عالمنا يعرف من ترضى “بالضرة”، فكثير منا يعرف أمثلة مضادة…وبالتالي، فما يحتمل هذا الوجه أو ذاك لا يجوز به الاستدلال؛
- “لقد وضعنا هذا الأمر في يد القضاء (زواج من لم تبلغ سن الثامنة عشر)، والقضاء مفروض فيه الاجتهاد، يبيح واحدة ويمنع أخرى، ولكن يجب ألا نستبق القضاء”. إن من يستمع لهذا القول، سيعتقد أن المدونة وضعت لتوه، وأن عالمنا يدعو إلى نهج جديد سَنته، وأن هناك من يُزايد عليه…فيُجيبه بالتمهل والتربص والروية، وعدم استباق حكم القضاء. لكن، الحال ليس هو هذا، فما اُعتقد أنه “استثناء”، تحول إلى قاعدة، وما وضع في يد القضاء، أصبح مشكلا، والاجتهاد المفترض، تحول إلى نقل وإلى استقرار وصفة، بغض النظر عن الملابسات المحيطة بها…والنتيجة تضخم عدد زواج القاصرات (حسب احصائيات تعود إلى سنة 2021، بلغ عدد حالات زواج القاصرات 19 ألفا)، والذي لا ينكره المنصفون من القضاة، وأحيلك في هذا الباب على تقرير صادر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بوسم “تقرير حول القضاء الأسري بالمغرب” (يناير 2023)، والذي حاول أن يفكك مسبباته المرتبطة بالأسرة بفهمها، أو لظروفها الاقتصادية والاجتماعية…فهل لا زالت هذه الأحكام صالحة؟ وهي لم تقيد الظاهرة، بل حولت الاستثناء إلى حكم مؤصل مسنود بتواتر الاجتهاد القضائي؟ بل إن عالمنا يدعونا إلى عدم النظر إلى تحديد سن الزواج، كقاعدة ملزمة، فنحن لسنا أمام “روبوهات” (والوصف له)، ماذا يعني ذلك؟ أنك ساهمت في صياغة قاعدة لا تؤمن بها؟ أو أن لك موقفا مغايرا منها؟ فكان الأجدى، أن تصرح بموقفك علانية وتدعو إلى تزويج الفتياتلمجرد البلوغ، بل،ولا ضير أن نعود إلى زواج ذات التسعة أعوام (على حد قول شيخ جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش)؟ فهل هذه هي القاعدة المجتمعية التي تدعو إليها، ومن منظرها المقزز، أن ترى فتاة في تسع سنوات، لا تعرف شيئا عن الدنيا، تساق إلى حتفها سوقا، وإلى رجل أقل ما يقال عنه أنه مريض…لا، إن المجتمع اليقظ، الواقعي وليس الافتراضي، لن يسمح بهذا…
وفي الختم، لقد قطع وابل التصفيق، ولمرات عديدة، الخيط الناظم لكلام عالمنا، فالقاعة تجاوبت معه في كل شيء، وصدى التصفيق بلغ منتهاه، فزاد ذلك من حماسة عالمنا، الذي لم يغادر المنصة إلا بعد أن أُفرغ ما في جعبته من رسائل، والتي تم تصريفها في كل الأزمنة: للماضي وللحاضر وللمستقبل، وإلى كل الفاعلين، وليُعلم منهم الحاضر الغائب…فعالمنا، ومن معه من أتباع، سيتصدون لكل إصلاح لا يرونه شرعيا وواقعيا، ويخدم النموذج، وتوافق عليه الجماعة…وفي استباق لصوت التأييد المنقطع لكلام عالمنا، ها نحن نصدع بقولنا في الموضوع، لعل ذلك يوقظ “حزب الكنبة”، فيثبط حزم وعزم القوم لكي لا يتحولوا، وعن جهل، إلى “حراس الإسلام” (استعارة من مؤلف مليكة الزغل: حراس الإسلام –علماء الأزهر في مصر المعاصرة-)…اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد./.