أسامة بلفقير _ الرباط
احتلت عدد من القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك بين مدريد والرباط، موقعا هاما في اللقاء الذي جمع بين المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني عبد اللطيف حموشي، والمدير العام للشرطة الوطنية الإسبانية فرانسيسكو باردو بيكيراس، يوم الأربعاء الماضي بالرباط.
على طاولة النقاش، تبادل الجانبان الآراء حول سبل تدعيم علاقات الشراكة والتعاون الثنائي التي تربط المصالح الأمنية بالمملكة المغربية بنظيرتها الإسبانية، عبر استحضار التهديدات المتعلقة بمكافحة التهديدات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة، فضلا عن سبل مواجهة الأنشطة الإجرامية المتعلقة بالاتجار بالبشر والتهريب الدولي للمخدرات والمؤثرات العقلية، بالإضافة إلى تعزيز آليات وقنوات تبادل المعطيات العملياتية ذات الصلة بالشأن الأمني.
اللقاء الذي جرى بحضور وفد أمني إسباني رفيع المستوى، تناول فيه الطرفان “سبل الرفع من الشراكات المؤسساتية في مجالات حيوية من قبيل أمن المنافذ الحدودية والشرطة العلمية والتقنية، فضلا عن تدعيم برامج التكوين الشرطي في مختلف التخصصات المهنية، خصوصا في مجال تأهيل فرق النخبة الشرطية والرفع من قدراتها في تدبير التدخلات الأمنية عالية الحساسية”، حسب ما ورد في بلاغ للمديرية العامة للأمن الوطني.
ومن خلال استحضار المعطيات الواردة في المباحثات التي أجراها الوفدين الإسباني والمغربي في هذا اللقاء، يتضح أن ملف الهجرة يأتي في قلب الاهتمامات ذات البعد الاستراتيجي بين الرباط ومدريد، وهو ما تجلى في الحديث بين الجانبين على شبكات الاتجار في البشر وتعزيز الأمن على مستوى الحدود المغربية الأوروبية. أهمية هذا الملف تبرز بشكل أكبر لاتصاله الوثيق مع باقي أشكال الجريمة المنظمة من تطرف إرهابي أو الاتجار الدولي في المخدرات… فالشبكات الإجرامية على الصعيد الدولي تلتقي بينها بشكل موضوعي، بالنظر إلى أن منافذ التهريب بين القارتين الأوروبية والإفريقية هي نفسها.
وقد كان للرؤية الملكية في هذا الملف وقع على السياسات العمومية، وفي مقدمتها سياسات المصالح الأمنية، التي ظلت تتفاعل بالجدية والحزم اللازمين، لمواكبة مختلف التحولات الأمنية الجيوستراتيجية في المحيط الإقليمي للمملكة، وفق مقاربة الملك محمد السادس، التي تقوم استنادا إلى ما جاء في تقرير جلالته أمام المشاركين في أشغال الدورة الثانية والثلاثين العادية للاتحاد الإفريقي، على مبدأ أن “تناول مسألة الهجرة يجب أن يكون بمنظور تنموي، يعالج أسبابها العميقة مثل التغير المناخي وعدم الاستقرار السياسي والعنف ذي الطابع العرقي وغيرها، وبالتالي يجب التوقف عن اعتبار الهجرة مجرد تهديد أمني، تعالج بغلق الحدود”.
ولم تذخر المملكة المغربية عبر مختلف مؤسساتها، جهدا في تنزيل مضامين هذه السياسة الملكية المتبصرة، سواء عبر العمل على تنزيل توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره لسنة 2013، وتطبيق مضامين الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء، واحتضان الرباط للمرصد الإفريقي للهجرة الذي تم إحداثه باقتراح من العاهل المغربي بصفته رائدا لإفريقيا في مجال الهجرة، واحتضان مراكش لمؤتمر الأمم المتحدة من أجل اعتماد اتفاق الهجرة سنة 2018.
لهذا لم يكن مفاجئا التقدير والثناء الذي حظيت به الدينامية، التي أطلقها العاهل المغربي على الصعيد القاري والدولي. ومن بين الأمثلة البارزة في هذا الإطار، نجد تصريح مفوضة الشؤون الاجتماعية بمفوضية الاتحاد الإفريقي، أميرة الفاضل، خلال شهر يونيو 2021، الذي أكدت فيه أن “الاهتمام الذي يوليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس لقضية الهجرة، يجعل منها عاملا لتنمية الدول الإفريقية والبلدان المضيفة”. بالإضافة إلى إشادة “إعلان الرباط” الصادر عن الاجتماع الوزاري الأول للبلدان الرائدة في تنفيذ الميثاق العالمي للهجرة المنعقد في مارس الماضي، “بالدور الرائد للملك محمد السادس في القارة الأفريقية”.
وعلى الصعيد الأممي، حظيت المجهودات الملكية البارزة في ملف الهجرة، بإشادة أممية عبر آلية تعاقدية تابعة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف وهي “اللجنة المعنية بحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم”، التي قالت في تقريرها بأكتوبر سنة 2013 إنها “تحيي بإكبار مبادرة جلالة الملك محمد السادس من أجل حوكمة جديدة في مجال إدارة مسائل الهجرة، تقوم على اتباع نهج إنساني وعلى الالتزامات الدولية للدولة الطرف وعلى شراكات متجددة”.
ومن الواضح من خلال ما سبق، أن الإشادات بمجهودات المملكة المغربية في ملف الهجرة وفق مقاربة ملكية رائدة، ليست وليدة الأمس القريب. مقاربة ووضع فرضا على الأجهزة الأمنية عددا من التحديات وبذل مجهودات أكبر على مستوى تأهيل العنصرين البشري والمؤسساتي، وهو ما جعلها في طليعة المؤسسات الوطنية التي تعمل على تنزيل الفلسفة القائمة عليها سياسة الهجرة في بلادنا، عبر محاربتها للتهديدات الأمنية لشبكات الهجرة غير النظامية دون التفريط في الالتزام الصارم بالمقاربة الحقوقية الإنسانية في التعامل مع ملف المهاجرين واللاجئين.
ومن باب التذكير في هذا الشأن، فإن تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان لسنة 2013، أوصى “بتطوير برامج تكوين وتحسيس موجهة لموظفي الإدارات المكلفة بمسألة الهجرة ومن بينها قوات الأمن”، بالإضافة إلى “تعزيز التعاون بين مختلف المصالح المعنية بمكافحة الاتجار بالأشخاص”. كما أن “اللجنة المعنية بحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم”، أوصت المملكة المغربية سنة 2013، باتخاذ التدابير اللازمة كي تتضمن استراتيجيتها الوطنية لمحاربة الاتجار بالبشر عددا من التدابير، من بينها “تعزيز تدريب الشرطة وسائر أفراد قوات حفظ النظام والقضاة وأعضاء النيابة العامة ومفتشي العمل والمدرسين والعاملين في قطاع الصحة وفي سفارات الدولة الطرف وقنصلياتها”.
توصيات تفاعلت معها بشكل إيجابي مصالح المديرية العامة للأمن الوطني، في إطار التزامات المملكة المغربية مع مؤسساتها الوطنية، ودوليا مع الآليات الأممية لحماية والدفاع عن حقوق الإنسان، إذ تم الاشتغال بشكل كبير على تقوية قدرات الموارد البشرية في مجال الهجرة واللجوء والاتجار بالبشر، وهذا ما اتضح بشكل جلي في التزام التدخلات الأمنية بمبدأ التناسب في استخدام القوة، عند تدبيرها لعملية الاقتحام المنظمة، التي شهدها السياج الحديدي الفاصل بين مدينتي الناظور ومليلية، كما بينت ذلك المشاهد والصور المنشورة عبر المواقع الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية.
كما أن تشييد المقرين الجديدين لكل من “المختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية” و”الفرقة الوطنية للشرطة القضائية”، بكل ما يتوفران عليه من وسائل لوجيستيكية وتقنية عالية الدقة، سيساهم في محاربة “الهجرة غير المشروعة والاتجار بالبشر”. مجهودات تضاف لما حققته المصالح الأمنية من إنجازات في هذا الإطار، معتمدة في ذلك على مقاربة شاملة، تعطي الأولوية لتعزيز التعاون والتنسيق مع دور الجوار الأوروبي وخصوصا إسبانيا، مع العلم أن المغرب لا يتعامل مع الظاهرة بصفته دركيا لأوروبا، ويؤكد على ضرورة التعامل مع هذه الإشكالية في إطار مسؤولية متقاسمة وشراكة محددة بوضوح مع إسبانيا وأوروبا على حد سواء.
ومع الأخذ بعين الاعتبار لضرورة التمييز بين ضحايا هذه الظاهرة الذين تجب حمايتهم، وشبكات تهريب المهاجرين التي تتعين مكافحتها بحزم مطلق، نجحت المصالح الأمنية سنة 2021 في إجهاض 63.121 محاولة للهجرة غير الشرعية ونزوح غير نظامي، وتفكيك 256 شبكة إجرامية لتهريب المهاجرين. أما في النصف الأول من سنة 2022 تم إحباط 14.746 محاولة للهجرة غير النظامية، وتفكيك 52 شبكة إجرامية لتهريب المهاجرين، وإنقاذ 97 شخصا في عرض البحر.
هذه المجهودات والإنجازات تجعل أجهزة الأمن المغربية شريكا لا محيد عنه بالنسبة للدول الأوروبية وخصوصا إسبانيا في مجال محاربة الهجرة غير النظامية، ما يكسبها سمعة دولية يستفاد منها على مستوى تدبير الحضور الجيوستراتيجي للمملكة المغربية في محيطيها الإقليمي والقاري.