أعدّه للنشر : عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
الاندماج النسبي الذي حققه الأمازيغ مع العنصر الفينيقي والقرطاجي، مكنهم من الانفتاح على واقع حضاري متطور. فبفضل احتكاكهم بالقرطاجيين واختلاطهم بهم في السراء والضراء، اكتشفوا طبيعة القوى المتصارعة في الحوض المتوسطي، سيما وأنهم كانوا يشكلون الجزء الأعظم من جيش الخيالة والمشاة التابع لقرطاج الذي طالما دافع عن مصالحها في نزاعاتها المريرة مع جيرانها اليونانيين والرومانيين، فمن المعروف أن الحروب البونيقية الثلاث التي دارت رحاها ما بين 264 و 146 قبل الميلاد أدت في نهاية المطاف إلى تدمير قرطاج عن آخرها ومكنت الرومان من الاستيلاء على المناطق الساحلية لشمال إفريقيا و إعلانها مستعمرات كثيرا ما كانت روما تتطلع للاستحواذ عليها واستغلالها.
ولم يكن الأمازيغ جبهة واحدة ضد زحف هؤلاء الغزاة، وإنما كانوا منقسمين إلى أطراف تدين بالولاء لقرطاج وأطراف أخرى تسعى لكسب تعاطف روماني سرعان ما انقلب إلى مجرد حماية رومانية، وظهرت في خضم الأحداث تنظيمات أمازيغية على شكل ممالك يقودها زعماء تمنعهم العقلية القبلية السائدة آنذاك من استيعاب الرهانات الإستراتيجية الحضارية الكبرى.
وعليه، فإن القادة الأمازيغ من أمثال سيفاكسو ماسينسا و يوجورتا و جوبا الأول لم يكونوا أحرارا بالمفهوم الاصطلاحي لكلمة أمازيغ، بقدر ما كانوا يبحثون عن الحرية المفقودة تحت وطأة الغزو الروماني، نلك الغزو الذي يعد الاستعمار الامبريالي الأوربي للقرن التاسع عشر الميلادي وريثه الشرعي شكلا ومضمونا. لقد كان الزعماء الأمازيغ ضحايا سياسة التفرقة التي تفنن الروم في إتقانها تجاههم، وكان جوبا الثاني من أكثرهم استسلاما للنظام الروماني بمختلف أبعاده السياسية والثقافية، إلى درجة أنه بنى معبدا خاصا للإمبراطور الروماني اوغسطس الذي أصبح بمثابة إله يتضرع إليه ويحظى بالإجلال.
لكن هذا لا يعني أن السواد الأعظم من الشعوب الأمازيغية رضخ للأمر الواقع، -بل على العكس من نلك تماما- وما قيام ثورة تاكفاريناس، بين سنتي 17 و24 م، إلا نموذج بسيط من حركات الرفض للاستعمار الروماني. لقد كانت علاقات عموم الأمازيغ بالرومان علاقات اضطهاد واستغلال ومجابهات أكثر منها علاقات مبنية على التلاقي الحضاري، ولما ظهرت الديانة المسيحية، اعتنقها بعضهم لأنها كانت في نفس وضعهم تعاني من القمع الروماني الممنهج.
لقد عرف الرومان بدهائهم السياسي وفكرهم الإستراتيجي العملي وتنظيمهم الإداري المحكم وتشريعاتهم القانونية المتطورة، وعندما احتلوا منطقة شمال إفريقيا، قسموها إداريا إلى سبع مستعمرات متفاوتة الأهمية، هى: إفريقياوبزسيناونوميدياوموريطانياالسطيفية وموريتانيا القيصرية وموريطانياالطنجية (عاصمتها طنجة). هذه المستعمرة الأخيرة كان يحدها نهر ملوية شرقا والرباط (شالة) جنوبا ومدينة وليلي كأبعد نقطة في وسط البلاد. وفي سنة 41 ميلادية، تم ضم موريطانياالطنجية رسميا إلى المجال الكولونيالي الإمبراطوري. وكان مما يدل على حالة عدم الاستقرار التي ميزت الحكم الروماني بالمغرب، هو وجود قوات عسكرية في حالة تأهب شبه دائم، وقد بلغ تعدادها عشرة آلاف جندي، وقد شكلت سلا-كولونيا (سلا حاليا) أكبر قاعدة عسكرية في المغرب الروماني.
وفيما يخص الوضع الديني، فإن المسيحية ظهرت في بادئ الأمر كخصم عنيد للرومان، لا تعترف بآلهتهم ولا تعطي أي قيمة لثقافتهم الدينية، وكان من الطبيعي والحالة هذه أن يتصدى لها الرومان بكل ما أوتوا من قوة وجبروت، لكن صمود المسيحية كان أقوى، ويرجع ظهور هذا الدين الجديد في شمال إفريقيا إلى بداية القرن الثاني الميلادي، وكانت عوامل ثلاثة قد ميزت تطوره التاريخي: الاضطهاد والهرطقة والانشقاق. ففي السنوات الأخيرة من القرن الثاني الميلادي، كانت المستعمرات الإفريقية الرومانية مسرحا لعمليات اضطهاد واسعة ضد المسيحيين.
وحدث ذلك في عهد الإمبراطور سبتموسسيفيروس (193م/211م) الذي جعل من السلطة الرومانية آلية بطش وتعذيب جهنمية موجهة ضد هذا الدين الجديد، وتوالت حملات الاضطهاد إلى أن بلغت ذروتها في منتصف القرن الثالث الميلادي. ومن نتائجها ارتداد عدد كبير من المسيحيين وهروب واختفاء أعداد أخرى منهم مخافة أن يقعوا تحت القبضة الرومانية المميتة، ففي شهر غشت من سنة 258ممثلا، تم إحراق العشرات من الناس كان ذنبهم الوحيد هو اعتناقهم للمسيحيةّ، وهذه الحادثة معروفة في التاريخ المسيحي ب”الكتلة البيضاء”.
وفي موريطانياالطنجية على وجه التحديد، يبدو أن ظهور المسيحية كان متأخرا نسبيا وأن انتشارها كان ضيقا.والكتابات المتخصصة تشير إلى شهيدين مسيحيين فقط، ولم يكونا من أصل أمازيغي وإنما من أصل روماني، وهما العسكريان مارسيليوسوكاسيوس اللذان تم إعدامهما بطنجة في نهاية القرن الثاني الميلادي، وقد عمد الرومان إلى إصدار عدد من المراسيم التي كانت تنص بصريح العبارة على اضطهاد المسيحية تفكيرا وممارسة إلى حين صدور مرسوم ميلانو سنة 313م الذي أقر الحرية الدينية لفائدة المسيحيين، وكان هذا التحول بسبب سياسة البحث عن الاستقرار في زمن بدأت فيه الإمبراطورية الرومانية في وضع لا تحسد عليه.
وكان من المفروض أن تتنفس الكنيسة الإفريقية أخيرا الصعداء، إلا أن معاناة من نوع آخر كانت تلاحقها، إنها تأثيرات الانشقاق الدوناتي و البليجياني التي كانت لا تقل خطورة عن الاضطهاد الروماني السابق، وكان الخلاف يتجلى في مدى صحة بعض الأمور الدينية وكذلك في التشكيك في مصداقية بعض رجال الدين، مما نجم عنه ازدواجية أسقفية كانت تتجسد في وجود أسقف كاثوليكي إلى جانب أسقف دوناتي منشق على رأس كل كنيسة، والواضح أن ازدهار هذه الأخيرة في إفريقيا الشمالية رغم تعداد أساقفتها، كان سطحيا في كثير من مظاهره، ولم يكن وضعها هذا بسبب الاضطهاد الروماني والانشقاق الداخلي فحسب، بل إنها في واقع الأمر لم تستطع أن تتجذر في المجتمع الأمازيغي.
نعم لقد اعتنق بعض السكان الأصليين المسيحية لأنهم بدون شك وجدوا فيها سندا ضد الهيمنة الأجنبية، ومنهم نخبة تعد من خيرة أقطاب الفكر المسيحي إلى اليوم، لكننا نلاحظ أنه عندما أصبحت روما الراعية للديانة المسيحية الرسمية، لم يتردد الأمازيغ في تعزيز صفوف المنشقين داخل المسيحية نفسها. ولما ظهرت حركة السيركومسيلاس(circumcellas)الأمازيغية التي كانت تستهدف محاصرة المصالح الاستعمارية في القرن الرابع الميلادي، كان من الطبيعي أن تجد في المنشقين الدوناتيين أقوى مساند لنجاح انتفاضتها.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة