أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور ، الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
تجسيدا لميزان القوة الجديد والعنيف بين المغرب وفرنسا تم التوقيع على معاهدة “تعيين الحدود” المعروفة بمعاهدة للامغنية، وكان ذلك يوم 18 مارس 1845، أي بعد مرور ستة أشهر على معركة ايسلي. وأما “الحدود” المشار إليها في هذه الاتفاقية فإنها كانت أشبه ما تكون بالضباب والسراب: أسماء لبعض القبائل والدواوير مع الإشارة إلى مصب نهر غيس على أساس كونها نقاطا حدودية بين المستعمرة الفرنسية الجديدة والمغرب. كانت هذه الإشارات الغامضة تتلخص في حوالي 300 كلم ابتداء من البحر الأبيض المتوسط إلى تانية الساسي، وما عدا ذلك فإن فرنسا كانت تزعم بكل مكر وخداع أنه لا داعي لتعيين حدود في مناطق صحراوية، حيث الأرض غير صالحة للزراعة وإنما فقط للرعي.
ولم تعد فرنسا تخفي نواياها السيئة أو تبدي أي تحفظ دبلوماسي في تعاملها مع المغرب. كما أن هذا الأخير لم يعد يشكل بالنسبة لها طرفا مفاوضا يستحق الاحترام. لهذا كان القنصل الفرنسي، دوشاطو، صادقا مع نفسه حين كتب بتاريخ 10 فبراير 1847 رسالة يعبر فيها عن ارتياحه للمكانة التي أصبحت تحظى بها فرنسا في المغرب: «يمكنني القول بأن وضع فرنسا ورعاياها بالمغرب أصبح بشكل استثنائي وضعا ممتازا. إن نفوذ بلدي، ونفوذي الشخصي كانعكاس له، أضحى واقعا ملموسا وفعالا لدى عدد من أعيان الإمبراطورية الشريفة».
وهكذا فحرب ايسلي التي كان المغاربة يعقدون عليها الآمال في تحقيق هدفين، هما مؤازرة المقاومة الجزائرية وكبح الأطماع الفرنسية في اتجاه المغرب، سرعان ما انقلبت إلى ناقوس خطر مهول يهدد بنسف السيادة المغربية بشكل لم يسبق له مثيل. بعبارة أخرى، فإنه رغم المساندة المغربية الرسمية والشعبية على حد سواء للانتفاضة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر لم يتمكن المغاربة لا من تحرير الجزائر ولا حتى من دفع الخطر عن بلدهم، ذلك البلد الذي باتت فرنسا تقتطع منه أجزاء هامة وتفرق قبائله بموجب معاهدات غير متكافئة الأطراف.
وتماديا في سياسة الهيمنة والتوسع أعلنت فرنسا ضم الجزائر لترابها الوطني سنة 1848، وقسمتها إلى ثلاث مقاطعات، هي قسنطينة ووهران والجزائر، واعتبرت هذا الإجراء الاستعماري السافر مجرد امتداد جغرافي لإقليمها فيما وراء المتوسطي. وبدأت الجاليات المسيحية تكتسح شمال إفريقيا ليس بدافع التنصير ورفع راية المسيحية وإنما بدافع قوة رأس المال والأطماع المادية التوسعية. وهكذا كان تعداد الجالية الأوربية التي التحقت بالجيوش الفرنسية لاستيطان الجزائر حوالي 30.000 مستوطن أوربي سنة 1840، ثم ارتفع هذا العدد بعد ضم الجزائر إلى 120.000 مستوطن، ومع نهاية الإمبراطورية الفرنسية الثانية في السبعينيات من القرن التاسع عشر وصل عدد المستوطنين الأوربيين بالجزائر إلى حوالي 300.000 مستوطن!
وجدت فرنسا في التوسع الكولونيالي فرصة سانحة لتجديد الثقة في قدراتها الذاتية ووسيلة غير مباشرة للتعبير من خلالها لأعدائها الأوربيين أنها تجاوزت عقدة انهزامها في معركة واترلو (1815). وأصبحت في وضع يؤهلها لاحتلال موقع الصدارة على المسرح العالمي. وبهذا الصدد عقب الكاتب الفرنسي كمى ايمار قائلا: «تميزت الأربعون سنة التي تلت احتلال الجزائر بتغليب التوجهات البحرية والكولونيالية في السياسة الفرنسية، وكان ذلك بدعم وتشجيع من الرأي العام. وهكذا حولت فرنسا أنظارها زهاء قرن من حدود نهر الراين لتتوجه إلى البحر. وكانت المغامرة الكولونيالية تتيح لها تعويضات لا متناهية عن كارثة 1815، حتى أنها كانت تبدو أحيانا متفرغة نهائيا لتوجهاتها البحرية. عندها بدا حلم يراود فرنسا نجد أصداء له في الخطب السياسية وكتابات تلك الحقبة: وماذا لو أصبح البحر الأبيض المتوسط كله فرنسيا؟!».
وتعزيزا لدعايتها الكولونيالية نصبت فرنسا نفسها كقوة يحق لها المطالبة بحماية المسيحيين في بلاد الشام وكذلك في كل المقاطعات التابعة للإمبراطورية العثمانية. وتحت هذا الادعاء تدخلت عسكريا في سوريا سنة 1850. واقتنعت السلطات المغربية بأن عهد العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا قد ولى. وفعلا، إنه لولا وقوف بريطانيا في وجه المد الكولونيالي الفرنسي لكان الاستيلاء على البلاد قد تم في ظرف زمني وجيز.
فعندما انكسر المغاربة في معركة ايسلي أراد الجنرال بيجو، قائد القوات الفرنسية الغازية، أن يواصل زحفه إلى تازة وفاس، لكن التدخل البريطاني كطرف معني في هذه الأزمة كان حاسما، حيث أعلن وزير الخارجية البريطاني، ابردين، للقائم بالأعمال الفرنسي بلندن: “إنني لست راغبا في خلق متاعب للسيد بيجو، لكن يجب أن تكون على يقين أن احتلال فرنسا لمكان معين في المغرب سيكون بمثابة الحرب على بريطانيا”.
وهذا الموقف تمليه بالطبع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لبريطانيا التي ظلت المنافس الرئيسي لفرنسا على الساحة الكولونيالية، ولا علاقة له إطلاقا بما كانت تروج له الدعاية من كونه سلوكا نابعا من علاقات الصداقة التي تجمع بريطانيا بالإمبراطورية الشريفة.
ومرة أخرى، جاءت معركة تطوان (60/1959) لتؤكد الدور الانجليزي في ترتيب أوراق النفوذ الكولونيالي في المغرب. لقد تحركت الدبلوماسية الفرنسية لاستمالة مدريد في محاولة منها لعقد تحالف فرنسي اسباني من أجل الاستيلاء على المغرب وإبعاد بريطانيا عن المجال الشمال الإفريقي، لكن انجلترا وجهت تحذيرا شديد اللهجة لإسبانيا من مغبة مواصلتها للزحف نحو طنجة، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل أجبرتها على عقد اتفاقية صلح مع المغرب، وقامت بدور الوساطة بهدف إبرام هذا الاتفاق، وحصل لها ما كانت تمليه إرادتها على أطراف النزاع المتكالبة على السيادة المغربية.
بقي أن الوجه الآخر للعملة كان يتجلى بالنسبة للمغرب، في سياق هذا التكالب، كونه أصبح تحت حماية بريطانية غير معلنة. وعليه فإن مصير البلاد كان بحكم الواقعية الكولونيالية موكولا لتوازنات الأطماع الاستعمارية.
وكان من بين النتائج الأولية لهذا الوضع خروج المغرب نهائيا من دائرة العمل الدبلوماسي كفاعل وكمؤثر في مسار سياسته الخارجية، بل حتى في كثير من مظاهر سياسته الداخلية. وأما فيما يتعلق بالمسألة التبشيرية في حد ذاتها، فلقد أصبحت مجرد أسلوب من بين الأساليب التي تم تسخيرها من طرف الاستعمار الغربي في إطار مشروعه الكولونيالي الشامل بالمغرب.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]