أعدّه للنشر : عماد المجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
من المتفق عليه عند المؤرخين أن المغرب عرف وجودا بشريا منذ عشرات الآلاف من السنين، وأن الإنسان المغربي القديم يحتل مكانا بارزا بين السلالات البشرية.وهذا بالضبط ما أكدته بقايا عظميةيزيد عمرها على ثلاث مائة ألفعام،تم العثور عليها سنة 2017 بموقع أثري في جبل ايغودبإقليم اليوسفية، على بعد 100 كم غرب مدينة مراكش. وقد اتضح للباحثين الاركيولوجيين أنها تعود للجنس البشري المعروف علميا بـ”الإنسان العاقل” (SapiensHomo باللاتينية). وقبل هذا الاكتشاف،عثر في الثلاثينات من القرن العشرين بنواحي الرباط على بقايا عظمية بشرية يعود تاريخها إلى أكثر من مئة وستين ألف سنة، وهي بقايا أطلق عليها المختصون اصطلاح “إنسان الرباط”.
ويبدو أن موقع المغرب الجغرافي وظروفه المناخية جعلته قبلة لأقوام توافدت عليه تحت تأثيرات مختلفة من إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط عموما ومن محيطه المتوسطي على الخصوص. وخلافا لما تروجه بعض الكتابات فإن المغرب لم يكن في أي مرحلة من مراحل تطوره التاريخي منطقة معزولة عن العالم تسكنها كيانات بشرية منغلقة على نفسها. لكن مع ذلك يجب الاعتراف أن المغاربة القدامى لم يتركوا لنا آثارا توحي بقيام حضارة مغربية ترقى إلى مستوى الحضارة الفرعونية أو الإغريقية أو الرومانية. والراجح أنهم كانوا في البداية صيادين ورعاة مترحلين وليسوا مزارعين مستقرين، وقد اتخذ بعضهم المغارات والكهوف بمثابة مساكن، وكان نظامهم شبه قبلي أو عشائري، أما معتقداتهم فقد كانت تتسم ب “التعددية” الوثنية، بحيث كانوا يؤمنون بوجود قوى خفية متنوعة تتحكم في كافة مظاهر الحياة، و أن عليهم التقرب منها مبتغين ضمان الأمن وتسهيل سبل العيش مع الاستعانة بها على الأعداء والاحتماء بها من شر الحيوانات الضارية. وشملت عباداتهم أماكن وأشياء معينة كالكهوف والأشجار وينابيع المياه والرياح، بل إنهم اتخذوا بعض زعماء قبائلهم آلهة كما ألهوا أنواعا من الحيوانات والثعابين. وكانت ممارساتهم الدينية على شكل طقوس سحرية يقومون بتأديتها في مناسبات زمنية ومكانية أصبحت هي نفسها من صميم تلك الطقوس.
كل هذه الإشارات إلى معتقدات المغاربة في العصور الغابرة تبدو غريبة حقا، بل قد يذهب البعض إلى اعتبارها ضربا من الخيال وافتراءات لا أساس لها من الصحة. لكن بغض النظر عما كشفت عنه وعما ستكشف عنه الآثار التاريخية الموغلة في القدم، فإنه يكفي المرء أن يلقى نظرة فاحصة متأنية على الفولكلور المغربي الحالي وعلى بعض العادات والسلوكيات المغربية في مناسبات وظروف معينة، ليتبين له أن لهذه السلوكيات طابعا شبه ديني لا صلة له إطلاقا بالديانات السماوية المعروفة، وإنما هو عبارة عن بقايا شعائر عقائدية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ المغربي السحيق .
ويعد وصول الفينيقيين إلى المغرب مع نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، نقلة نوعية في علاقات المغاربة بالحضارات الأجنبية، وقد ساعد على ذلك كون الفينيقيين تجارا لا غزاة، بدليل أن المغاربة لم يبدوا أي مقاومة تذكر عندما أقدم الفينيقيون على تأسيس مراكز أو موانئ على الساحل الأطلسي المغربي، إذ كان هدفهم هو تسهيل مبادلاتهم التجارية مع السكان المحليين الذين أجمعت كل المصادر بشأن هويتهم الأمازيغية، وكانت المقايضة هي الأسلوب الذي تم اعتماده في بداية هذا التلاقي الحضاري. بيد أن كثافة هذا التواصل لم تتحقق إلا إبان العصر القرطاجي، أي حوالي ثلاثة قرون قبل تدمير قرطاج على يد الرومان سنة 147 قبل الميلاد. ويرى بعض الباحثين أن الرحلة البحرية التي قام بها الملك القرطاجي هنون إلى السواحل المغربية في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد كانت بمثابة عقد ازدياد التاريخ المغربي، وهذه النقطة بالذات ما زالت في حاجة ماسة إلى نقاشات وتحليلات معمقة ومستفيضة.
وأما الجانب الديني الذي يسترعى اهتمامنا هنا، فإنه عرف في منطقة الشمال الإفريقي تطورا ملموسا، خاصة في العصر القرطاجي. وتجدر الإشارة إلى أن القرطاجيين من أصل فينيقي. صحيح أنهم أعلنوا استقلالهم السياسي عن الشرق الفينيقي ولكنهم ظلوا متشبثين بالثقافة الفينيقية التي تسربت عن طريقهم إلى المجتمع المغربي. ففي هذه الحقبة تعرف المغاربة على آلهة جديدة كالإله بعل حمون والإله أيل الذي كان يعتبر الإله الأول عند الفينيقيين، والإلهة عاشرة، والإله عليان، كما أن ظاهرة التأثير المتبادل لعبت دورها كاملا، ويتجلى ذلك في قيام قرطاج ببناء معابد خاصة لآلهة أمازيغية الأصل كالإلهة تانيت، إلهة الخصوبة والإنتاج والتي كان يرمز إليها بسيدة ترضع طفلها، وهذا ربما يدل على أن المجتمع المغربي الأول كانمجتمعا أموميا؟ كما بنت قرطاج عدة معابد لإله يدعى أشمون كان معروفا عند المغاربة، إضافة إلى استعمالها لبعض الطقوس ذات الأصل الإفريقي الزنجي وبعض العادات ذات الأصل الأمازيغي كالوشم مثلا.إنه من غير المستبعد أن هذا التمازج الحضاري الذي ميز الحقبة القرطاجية هو الذي كان وراء تأسيس ممالك أمازيغية مستقلة وأهلها للخروج نسبيا من دائرة الحياة القبلية السابقة.
وبدون شك أن احتكاك المغاربة بفكر ديني جديد دفعهم إلى إعادة النظر ولو جزئيا في بعض معتقداتهم وتصوراتهم للعالم من حولهم. وهذا ما سيتأكد خلال العصر الروماني.