أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
منذ مطلع القرن الثالث عشر الميلادي والمغرب يسجل تراجعا مستمرا ليس فقط على صعيد شمال إفريقيا، بل كذلك على الساحة الأندلسية التي طالما ألهبت المشاعر وتسببت في معارك طاحنة ضد القوات المسيحية. لقد انتهى العصر الذهبي المغربي بانتهاء العهد الموحدي، ولم يكن المرينيون بقادرين على استرجاع ما فقده المغرب من هيبة في المجال المتوسطي. وفي هذه الحقبة كذلك أفل نجم الحضارة الإسلامية في الشرق، وكان سقوط بغداد في أيدي التتار سنة 1258م، بداية عصر الانحطاط والانكماش في المشرق والمغرب على السواء، وفي قبالة السواحل المغربية برز كيان مسيحي جديد يهدد بالانتقام، إنه البرتغال!
تأسست مملكة البرتغال على يد الفونس دو بوركون الذي هزم المغاربة وحرر مدينة لشبونة سنة 1147م. وهنا تجدر الإشارة إلى مشاركة البرتغال في التحالف المسيحي ضد الموحدين في معركة العقاب الشهيرة (1212م)، والتي كانت إيذانا بانهيار مكانة المغرب العسكرية والسياسية بين الأمم. ومن المهم كذلك التركيز في سياق هذه المعركة التاريخية التي قلبت الموازين على الدور الفعال الذي لعبه أسقف طليطلة رودريغو خمينيس في الإعداد المحكم للقضاء على النفوذ المغربي بشبه الجزيرة الإيبيرية.
لقد قام بحملة واسعة النطاق في ربوع أوربا، استطاع خلالها جمع شمل المسيحيين وتعبئتهم في مواجهة الموحدين، وفعلا وقعت المواجهة بين قوات مغربية منقسمة على نفسها وقوات مسيحية متحالفة ومحكمة التنظيم، وكان ذلك بمباركة البابا وبالمشاركة الفعلية لعدد من الأساقفة، كان خمينيس من بينهم. وكتذكار لتلك المعركة التي تسمى عند المؤرخين الغربيين بمعركة لاس نافاس دي تولوزا(1212م)، مازال الإسبان يحتفظون ببعض الخيام والأعلام الموحدية إلى يومنا هذا، وهي موجودة حاليا بأحد أديرة مدينة بوركوس.
بنى البرتغال قوته الصاعدة على الاستكشافات البحرية والتجارة الخارجية. وكان المغرب المتهاوي يبدو أكثر فأكثر لقمة سائغة في فم هذه القوة المتوسطية الجديدة، التي تبحث بكل جد ومثابرة عن مكان لها تحت الشمس، عندها قرر ملك البرتغال تنظيم حملة عسكرية لاحتلال سبتة، وقال: “لقد تلطخت يداي بما فيه الكفاية بدماء المسيحيين، وسوف لن يرتاح لي بال حتى اغسلهما بدماء الكفار (يقصد المغاربة)”. وحتى يستفيد من عامل المفاجأة، فقد أحاط حملته العسكرية بكثير من السرية والتمويه، وفعلا تسلل الأسطول البرتغالي الحربي إلى شواطئ سبتة عشية يوم 20 غشت 1415م، وكان مؤلفا من 242 باخرة، وفي اليوم الموالي استطاع الغزاة الاستيلاء بسهولة على المدينة وأعلنوها برتغالية!
وتوالت الهجمات البرتغالية على المغرب، فكان احتلال القصر الصغير (1458) و طنجة و أصيلة (1471) واكادير (1505) والصويرة (1506) وأسفي (1508) وازمور (1513) والجديدة (1514). كما أنهم حاولوا الاستيلاء على مراكش سنة 1515، فكان القرن الخامس عشر بكل تأكيد قرن معاناة المغاربة مع الاستعمار البرتغالي.
وبالطبع اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية الاحتلال البرتغالي للمغرب نصرا للمسيحية على الإسلام، ونادي الكاردينال خمينيس باحتلال إفريقيا الشمالية بأكملها، وتم بناء الأسقفيات بسبته (1417) وطنجة (1487) وأسفي (1499)، لكن هذا الشعور المسيحي الانتقامي لا يعني أن الاحتلال البرتغالي للسواحل المغربية كان أساسا بدافع ديني، بل كانت له دوافع سياسية واستراتيجية ترمي على الخصوص إلى عرقلة إعادة بناء القوات المغربية ومنعها من شن حملات جديدة على شبه الجزيرة الأيبيرية، كما كان يرمي إلى تأمين الطريق البحري المؤدى إلى رأس الرجاء الصالح والمار بعدد من المراكز التجارية على الساحل الإفريقي، وكان من الطبيعي، في سياق هذا النزاع المرير، أن تطفو قضية الأسرى المسيحيين على سطح العلاقات المغربية الخارجية.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]