أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
لم يحقق المرابطون الوحدة السياسية المغربية المستقلة وحسب، بل أرسوا الدين الإسلامي على دعائم ثابتة والتزموا بالوحدة المذهبية المالكية، ثم نادوا إلى الجهاد ضد النصارى الإسبان واستطاعوا ربط المغرب بالأندلس على أكثر من صعيد. إن الفضل، كل الفضل، يرجع للمرابطين في إبراز الهوية المغربية بمفهومها الديناميكي الشامل والمتحرر من عقدة الدونية تجاه الآخر. تلك الهوية التي ستصبح انطلاقا من العهد المرابطي مرتكزة باستمرار على عنصرين أساسيين، وهما: الأمازيغية والإسلام. ولهذا فكلما توترت علاقات المغرب مع العالم المسيحي إلا وتمت الإشارة إليه بموطن التعصب الإسلامي أو التزمت الأمازيغي، علما بأن المسيحيين في بادئ الأمر لم يعترفوا بالإسلام كديانة جديدة، بل كان هناك من رجال الكنيسة من اعتبر هذا الدين مجرد هرطقة مسيحية وجب القضاء عليها بكل الوسائل. ولما بنيت المساجد وشاع مضمون القرآن الكريم، وانتشرت المدارس الفقهية وظهرت التيارات الفكرية الإسلامية المحضة، تبين للكتلة المسيحية أنها أمام تحد حضاري يهددها في الصميم، وكان ذلك من دواعي قيام الحروب الصليبية.
ومما تجب الإشارة إليه هو ذلك التعامل المرن والمتسامح الذي مافتئ الإسلام يسلكه تجاه أهل الكتاب من يهود ونصارى، فقد وردت بصددهمآيات قرآنية تعد بمثابة قاعدة راسخة لأسلوب التعامل في هذا الشأن. وعليه فإننا لا نستغرب تواجد أقليات مسيحية في شمال إفريقيا كانت تعيش في أمن تحت ظل الحكم الإسلامي، وقد أشار إليها ابن حوقل، والبكري، والشريف الإدريسي وابن خلدون، وغيرهم من الجغرافيين والمؤرخين العرب. وبطبيعة الحال لقد تقلص نفوذ الكنيسة الإفريقية إلى حد الاندثار، وهو الوضع الذي جعل البابا ليون التاسع يتألم عندما بلغه أنه لم يبق في إفريقيا الشمالية بأكملها سوى خمسة أساقفة، وكان ذلك بتاريخ 17دجنبر 1053م، ويبدو أنه في سنة 1076م لم يبق سوى واحد منهم، هو الأسقف سرياكوس بقرطاج، وعلى كل حال فإن هذا التعايش على ضآلته يدل على أن الإسلام لم يكن دين اضطهاد وإبادة كما صورته بعض الأطروحات المسيحية المغرضة.
وبناء على ما سبق فإن سلوك المغاربة تجاه المسيحية بعد الفتح الإسلامي كان يتجلى في ثلاثة مواقف: أولا، في بداية الفتح الإسلامي تمت معاملة كل المسيحيينالذين اختاروا البقاء على الأرض الإفريقية طبقا للتسامح الإسلامي المنصوص عليه في القرآن، وكانت السلطات السياسية هي المسؤولة عن حمايتهم.
ثانيا، بما أن مفهوم الدولة والمجتمع أصبح نابعا من مرجعية إسلامية صرفة، فإنه تم إلغاء كل آثار القانون الروماني، كما تم تعطيل أو تحوير نشاط المؤسسات الإدارية والثقافية الرومانية، ولم تنج الكنائس من تلك الإجراءات، لقد قام موسى بن نصير في المغرب مثلا بتحويلها إلى مساجد.
ثالثا، لما وصل الموحدون إلى الحكم انتهجوا سياسة دينية أكثر صرامة من أسلافهم المرابطين، وكان ذلك واضحا من خلال مكافحتهم لظاهرة التجسيم في التعبير عن الإيمان بالله، وفي اعتبارهم للمسيحيين مشركين، كما أن نظرية التثليث ظلت مثار اشمئزاز دائم بالنسبة للموحدين.
و إجمالا، اتسمت العلاقات المغربية المسيحية على مر الأزمان بمؤثرات العوامل الجيواستراتيجية والأحداث المترتبة عن الصدام أو التلاقي الحضاري. لذلك لا يجب استغراب استعانة المرابطين والموحدين أنفسهم بعدة آلاف من الجنود النصارى، إما بصفتهم مرتزقة في خدمة السلطات المغربة، أو بصفتهم متعاونين أجانب في إطار اتفاقيات عسكرية ثنائية بين المغرب وبعض الملوك المسيحيين. وفي زمن الحرب كانت الحملات العسكرية المغربية على إسبانيا والبرتغال غالبا ما ترجع مثقلة بالغنائم وبمئات الأسرى من النصارى. وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء وأولئك أعدادا من التجار والمغامرين المسيحيين، عندها يتضح لنا أن تواجد المسيحية بالمغرب كان وسيظل نتاجا لحتمية التواصل الحضاري بخيره وشره على حد سواء.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]