سلوى ياسين
خلال السنوات الأولى من الدراسة، أتخذ كرهي للمدرسة شكل الاكتئاب المزمن. كل صباح كنت أتمنى وقوع شيء خارق، وأتوسل للكوارث أن تحدث عَلِي افلت من ذلك المصير الحزين والضجر القاتل الذي أواجهه في تلك الحجرات الباردة.
مجرد النظر إلى باب المدرسة الكبير الموصد بإحكام كان يُعَظم كآبتي، لو أنهم فقط يتركونه مواربا ولا يغلقونه بكل ذلك الحزم. مرات كثيرة تذرعت بالأطفال الأشرار الذين يعترضون طريقي، بالمعلمة التي كانت ترعى ذلك الصمت الجنائزي الذي يخيم على القسم، ويحول تلك الصور والرسوم الرائعة في الكتب المدرسية إلى شيء قاتل لكل بهجة وخيال.
زاد من حزني أيضا، زملائي المستسلمون لهذا الواقع بشكل يدعو إلى الشفقة. كنت داخل القسم شبه غائبة عن الوعي، أبكي وقتي المهدور في الجلوس على طاولة باردة. وأتخيل أنواع العفرتة التي كان بإمكاني تجريبها داخل منزلنا في تلك الصباحيات. لم أتصالح مع المدرسة إلا حينما أصبح لدي أصدقاء هناك، هؤلاء فقط من كانوا يجعلونها قابلة للتحمل.
في العمق ما كان يجعلني أكره المدرسة، هو العالم الذي كان يختفي من أمام عيني داخل المنزل الرائع المليء بالتفاصيل. تلك البهجة التي أتخيل أن أهل البيت يعيشونها في غيابي، وذلك الروتين المنظم الذي كان يشعرني بالاطمئنان. كنت أحلم داخل القسم بعينين مفتوحتين بأن هناك شيئا رائعا يحدث في منزلنا الذي كان عالما نشيطا من الصور والأصوات والروائح. ربما زارنا الضيوف وحملوا معهم أشياء حلوة.
وماذا عن تلك الوشوشة التي لن استرق السمع إليها؟ من فرط كآبة مقاومة الذهاب إلى المدرسة تلك، لا أتذكر اليوم إن كنت في تلك الأيام طفلة مجدة أم كسولة لا أجد سوى تعاستي هي التي تستحق الذكر والتذكر. وما كان يزيد من حزني أن بداية الدراسة كانت تأتي في وقت الخريف المظلم والكئيب.
فلم افطن إلى شاعرية هذا الفصل إلا حينما تركت المدرسة. والعارفون من عائلتي بتاريخي الأسود في مقاومة التمدرس، يذكرونني به أحيانا ويرفعون جباههم من الدهشة خصوصا حين سيغدو التدريس والكتابة مهنتي. وسأصبح في وقت لاحق أيضا مدمنة للكتب وربما أكثر من أبناء العائلة الذين كان ينطلقون صوب المدرسة بحماس لا أستطيع أن أفك شفرته حتى اليوم. اليوم، آخذ الأولاد إلى المدرسة واستمع إلى الأمهات يتفاخرن بانضباط وحب أبنائهن لها. لقد حدث شيء ما غير وجه الطفولة والمدرسة، هل أصبحت المعلمات اقل قسوة وصرامة؟ أم أن خوصصة التعليم جعل المدرسة مكانا تهفو إليه نفوس الصغار.
خرجت الكثير من الأمهات للعمل، وحدها الآلات تضل تنتظر في البيت. أصبحت المنازل ربما هي مصدر التعاسة والكآبة. يمكن أن تتجول في البيوت خلال الأيام الدراسية لتجدها خالية من أي حياة تستحق أن يتذرع الطفل بالمرض لكي يبقى بداخلها. المنازل أصبحت خالية من جدة دافئة الحضن كانت تنتظرنا بشوق، من قريبة عانس تزورنا غِبٌا، من قريبة أرملة تأتي كل عشية تتذرع بشرب القهوة لكي تحكي المزيد من الأسرار. لا أصدق عيني وأنا أرى أولائك الأطفال سعداء أو هكذا يبدون حين يندفعون بأثقالهم الملونة صوب باب المدرسة، أتفحص وجوههم هل هم حقا سعداء؟ أم يدعون ذلك؟ لا يمكن أن يكون هناك طفل متوازن يمكنه أن يقع في حب المدرسة من أول نظرة، هكذا دون مقاومة.
أو أن يكون سعيدا في هذا العمر المبكر، وهو يُساق مستسلما نحو حجرة دراسية مغلقة. دون أن يبكي متشبثا بأمه. أتذكر أنني في نفس ذلك العمر وربما أكبر كنت أنتحب كل صباح، وأتمسك بأي شيء يمكنه أن يجنبني هذه الكارثة، أحيانا أمسك بمقبض الباب الكبير، بطرف ثوب جدتي التي كانت تعمق حزني بعينيها المشفقتين علي وهي تراهم يأخذونني إلى ذلك المكان الكئيب المُسَيَج بالأسوار والحديد، الذي يقف على بابه ذلك المخلوق الغاضب على الدوام الملقب بالحارس. فهل حقا كان هناك من يحب المدرسة؟