موسى المالكي*
أضحت معركة الخرائط تلعب دورا ديبلوماسيا موازيا على قدر كبير من الأهمية، خاصة مع تصاعد وتيرة النزاعات الحدودية على المستوى الدولي، فتعمل البلدان على تأكيد سيادتها على الخرائط أولا قبل الميدان لاحقا. وقد تأكدت حساسية نشر الخرائط بشكل قوي ضمن فصول التنافس الإقليمي حول الحدود البحرية بالبحر الأبيض المتوسط على سبيل المثال (تركيا، مصر، اليونان، لبنان، “إسرائيل”، الجزائر، ليبيا، …).
وتزايدت أهمية خرائط السيطرة والنفوذ ضمن الحروب الأهلية (سوريا، اليمن، إثيوبيا) والبينية (أرمينيا وأذربيجان). في هذا الإطار، وخدمة للقضية الوطنية الأولى المتمثلة في استكمال الوحدة الترابية للمغرب، تظهر أهمية ديبلوماسية الخرائط في إقناع الرأي العام الدولي بعدالة قضيتنا، ومكافحة الخرائط الوهمية التي ينشرها خصوم المملكة في وسائط متعددة.
محركات بحث دولية تعترف ضمنيا بمغربية الصحراء
سجلت الديبلوماسية المغربية انتصارا كبيرا على مستوى وسائط الخرائطية العالمية، بحكم الحصول على “اعتراف ضمني” من أحد أكبر المحركات البحثية العالمية بمغربية الصحراء، حيث اختفى الخط الوهمي الذي كان يفصل أقاليمنا الجنوبية عن المغرب على تلك المواقع.
وتظهر صور الأقمار الاصطناعية المعروضة على كل من موقعي “Google Maps” و”Google Earth” الخريطة المغربية كاملة غير منقوصة، وهو انتصار ديبلوماسي كاسح ضمن ساحة معركة الخرائط، نظرا لأن مثل هذه المحركات يطلع عليها مئات ملايين المستعملين على المستوى العالمي ينتمون لمختلف الجنسيات واللغات والأعراق، ولذلك يستمد هذا الإنجاز أهميته من اتساع رقعة المستعملين، واعتماد جانب معتبر من الصحافة الدولية على معطياته.
أهمية اليقظة الخرائطية في الدفاع عن الوحدة الترابية وكسب التعاطف الدولي
إن تشكيل خلية رسمية لليقظة الخرائطية على مستوى أجهزة وزارة الخارجية، لمكافحة ومقاومة نشر الخرائط المبتورة أو المشوهة أو المخلة بوحدتنا الوطنية، خاصة على المواقع الرسمية للمنظمات الدولية ووكالات الأسفار العالمية والإعلام الأجنبي، ممثلا في القنوات التلفزية والمواقع الإلكترونية والصحفية ووسائل التواصل الاجتماعي.
ويمكن لهذه الخلية أن تعتمد على توضيحات مسندة بوثائق تاريخية وحجج رسمية، وتبني منهج علمي موضوعي في الإقناع والحجة والرجوع للأصول والأرشيف، بل والخرائط التاريخية للمملكة المغربية الشريفة، قبل التدخل الاستعماري الأجنبي بشمال إفريقيا الذي عبث بحدود بلدانها واقتطع من بعضها ليضم إلى أخرى.
وهي وسيلة ضرورية للترافع وكسب ود المجتمع الدولي وضمان تأييد الرأي العالمي المؤثر، لمساعدتنا في كفاحنا من أجل استكمال وحدتنا الترابية وتصفية تركة الإرث الاستعماري، وتكذيب الادعاءات والتضليل الذي ينشره الخصوم.
وبكل تأكيد، فإن الديبلوماسية المغربية الدولية، تمتلك من الأدوات والطرق والإمكانيات والطاقات والعلاقات والوسائل، الكثير مما يمكنها التصرف مع كل حالة بما يناسبها، وفقا لموقعها وأهميتها والسياق والمحيط المؤثر فيها، واللغة التي تفهمها.
الديبلوماسية الموازية في خدمة نشر وتعميم الخريطة المغربية بجميع اللغات
إن أول ما ينبغي الحرص عليه في المقام الأول، هو استناد المواطنين المغاربة داخل الوطن وخارجه من الجاليات بكافة بقاع العالم، حصريا على خرائط رسمية صادرة عن مؤسسات حكومية مغربية ذات الاختصاص والمؤهلة لإنتاجها، خاصة مع كون المغرب لازال يخوض معركة استكمال وحدته الترابية.
ولتسهيل العملية، يمكن للمصالح المغربية الوصية على قطاع إنتاج الخرائط، توفير سيل غزير من الخرائط ذات الجودة العالية وبمقاييس واضحة ومختلفة، وبمعطيات محينة ومتجددة وذات مصداقية على مدار السنة، وبمختلف اللغات العالمية، ونشرها على نطاق واسع، وتيسير وصول المواطنين والصحافة الوطنية والدولية والمنظمات الحكومية والمدنية بكل سهولة وتيسير.
وفي هذا الإطار، يفضل أن يحرص كل موقع حكومي مغربي على توفير نافذة ومنصة لتحميل الخرائط المغربية السليمة بمختلف اللغات والعمل على نشرها على أوسع نطاق، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي وإحداث صفحات متخصصة في ذلك.
ويمكن لمثل هذه الخرائط أن ترسم المسارات السياحية وتوطن المدن المغربية، وتوضح جهود المغرب في التنمية، وتبرز مواقع المشاريع والبنيات التحتية ذات الأهمية الكبرة (الموانئ، المطارات، خطوط السكة الحديدية، منصات الطاقة المتجددة،…).
وهنا، يمكن أن نسجل بكل افتخار واعتزاز، الجهود والغيرة التي عبر عنها المواطنون المغاربة في مناسبات عديدة، حينما تسرب بعض البرامج التلفزية -عن قصد أو دون قصد- أو على مستوى بعض المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لخرائط مبتورة للمغرب، حيث يسجل غضب شعبي مغربي وتنديد بمثل هذه الأخطاء، أجبر أصحابها على تصحيحها في أكثر من مرة وتراجعهم عنها بفضل هذا الضغط الشعبي القوي.
وفي الميدان العلمي والأكاديمي والثقافي، لا ينبغي التسامح مطلقا مع الباحثين والمتدخلين خاصة ضمن الندوات والمؤتمرات الدولية، في عرض خرائط مبتورة للمغرب أو تسيء لوحدته الترابية، سواء كانت الندوة رسمية أم أكاديمية محضة.
وهكذا، ستختفي نهائيا تلك الخرائط الوهمية والخطوط المصطنعة، وتنتشر عوضا عن ذلك الخرائط الشرعية والقانونية والتاريخية التي تعكس حدود المملكة الحقيقية، سواء في مراحل تاريخية سابقة أو حاليا.
ويمكن لمؤسسات وطنية رسمية كالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ومؤسسة أرشيف المغرب ووزارة الثقافة ووزارة الخارجية والسفارات المغربية في مختلف أنحاء العالم، تنظيم معارض دورية تعريفية بالخريطة المغربية بلغات مختلفة، حتى تتشبع بها الأجيال الحالية والمستقبلية، ويسهل استعمالها وتعميمها، والاطلاع على المقررات والبرامج التربوية والتعليمية المعتمدة بتلك البلدان.
ولعل دعم الأبحاث الجغرافية والتاريخية، وتوسيع مجال المستفيدين من دورات نظم المعلومات الجغرافية، يمكن أن يكسبنا جيلا من الطلبة والباحثين المتحكمين في إتقان الخرائطية الآلية واستخدامها في خدمة القضايا الوطنية العادلة، والجهود التنموية الحثيثة التي يقوم بها المغرب.
وتتزايد أهمية تحيين النسخ الرقمية والورقة من الخريطة المغربية، مع إقدام المغرب على الترسيم القانوني لحدوده البحرية كخطوة سيادية ذات مغزى قوي. وفي تدعيم ترافعه دوليا بتشاور مع شركائه الإقليميين وجيرانه، من أجل تسجيل هذه الحدود لدى منظمة الأمم المتحدة، وهو ما أكده عاهل البلاد الملك محمد السادس في خطابه الأخير، وربطه مع الإمكانيات الكبيرة التي سيتيحها توجه المغرب نحو تعزيز اقتصاده البحري، كتوجه جيواستراتيجي جديد للمغرب.
* أستاذ شعبة الجغرافيا بجامعة محمد الخامس الرباط – باحث في القضايا الجيواستراتيجية