ميمون الواليدي
ستتوجه أنظار الكثيرين عشية اليوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة نتائج انتخاباتها الرئاسية، وستبقى الأعين مشدودة إلى أجهزة التلفاز لساعات قبل الإعلان عن الإسم الذي “اختارته صناديق الاقتراع”. وككل مرة، يصر الإعلام الغربي وغير الغربي على الترويج لفكرة أن الانتخابات الحالية “ستكون تاريخية” و “سيتغير بعدها العالم” و “سيكون لها ما بعدها” وهلم جرا من تعابير البروبغندا السطحية التي تقف خلفها اللوبيات الرأسمالية، قصد الترويج “لنموذج ديموقراطي” فقد بريقه من زمان، ولم تعد الدعاية كافية لإقناع شعوب العالم بأنه “النموذج المثالي”.
كالعادة، ستعرف الانتخابات منافسة بين مرشحين وحزبين فقط، وهي ديكتاتورية من نوع “الحزبين الوحيدين”، حيث لا يمكن أن يتوفر للناخب اختيار خارج التنظيمين “الديموقراطي” و “الجمهوري”. وحتى عندما يكون هناك مرشح من خارجهما فعليه إقناع أحدهما بترشيحه كما حال بيني ساندرز، وفي الغالب لا يحصل على هذا الترشيح لأن القواعد تقتضي ترشيح من هو ملتزم رسميا ومبدئيا بتوجهات وأهداف أحد الحزبين، إنها ديكتاتورية مقنعة بكل بساطة.
من عادة الإعلام الأمريكي ومحللي قنواته التلفزيونية وصناعته السينمائية، تقديم الحزب الجمهوري على أنه ممثل اليمين والمحافظين، والحزب الديموقراطي على أنه ممثل اليسار الليبرالي التقدمي. لكن المتابع للسلوك السياسي للحزبين وللإدارات الأمريكية المتعاقبة، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، يصعب عليه العثور على أي فروق بين اختيارات وقرارات وممارسات الجمهوريين والديموقراطيين، بل إن الكثير من مواطني العالم يصعب عليهم تحديد إنتماءات الكثير من الرؤساء بسبب التطابق الكبير في مواقفهم وممارساتهم السياسية.
في الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر الرأسمالية نموذجا مقدسا والاشتراكية والشيوعية تعتبران جريمة، وإلى عهد قريب كان الشيوعيون ملاحقون ويزج بهم في السجون ومطاردون من طرف مكتب التحقيقات الفدرالي. أي ديموقراطية هذه التي تفرض نموذجا واحدا على شعبها، وتفرض على المرشحين الالتزام بهذا النموذج وإلا يتم إسقاطها بالإعلام والفضائح وطبخ الملفات ؟ حتى بيني ساندرز الذي حاول من بوابة الحزب الديموقراطي تم إقصائه باللجوء إلى تهمة الشيوعية والرغبة في استيراد النموذج الفينزويلي، رغم أن ساندرز فعليا ليس شيوعيا ولا اشتراكيا ولا هم يحزنون.
حسنا، إذا كان الحزبان المتناوبان على “الحكم” ملتزمان بنموذج ديموقراطي واحد، فأي بديل يمثل أحدها بالنسبة للآخر ؟ أليسا إذن حزبا واحدا ؟ الحقيقة أن الحزب الديموقراطي في السياسة الداخلية والمجال الاقتصادي هو عجلة احتياطية للحزب الجمهوري، فكلما أحست البرجوازية والرأسماليون واللوبيات بضغط من الطبقة المتوسطة وبعض الفئات الشعبية لجأت لرئيس “ديموقراطي” يوهم الناس “باصلاحات في القطاعات الاجتماعية” كما فعل أوباما في قطاع الصحة، وعندما تنقشع غمامة الأزمة واحتمال الانتفاضة، يعود الحزب الجمهوري مرة أخرى ليأخد باليد اليمنى ما منحه الديموقراطي باليسرى، كما فعل ترامب مع إجراءات أوباما. هذه الممارسة تكررت دائما، وأشهر أمثلتها ما فعله الجمهوريون بعد جون إف كينيدي في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، فلم تكتف اللوبيات بالاغتيال بل ألزمت نيكسون وريغان بالتراجع عن كل الالتزامات، بل وفتح صفحة جديدة من الليبرالية المتوحشة من خلال “الوجه السينمائي المحبوب” لرونالد ريغان.
في السياسة الدولية كذلك، لا اختلاف بين الحزبين وإداراتهما المتعاقبة، فكلاهما مؤمن بقيم أمريكا الإمبريالية القائمة على “قيادة العالم الحر” و “عسكرة العالم” و “السيطرة على ثروات الشعوب” و “دعم الديكتاتوريات الموالية” و “قصف الأنظمة المناوئة” و “استغلال حقوق الإنسان لاحتلال البلدان الممانعة”، و “التدخل في الشؤون الداخلية للدول من خلال تجييش المرتزقة وتمويل الانقلابات”، و “الدعم الكامل واللامشروط للكيان المعلوم” …. ما الجديد الذي سيغير العالم إذن مادام الرئيس الجديد، ديموقراطيا كان أم جمهوريا، مجبرا على الإلتزام بهذه البنود العريضة ؟
لن يكون هناك أي جديد أو فرق في سلوك الإدارة الأمريكية، سواء أعلن “فوز” جو بايدن أو أعلن “بقاء” دونالد ترامب. سيكون هناك ربما تغيير في القبضة، لكن السكين سيبقى هو نفسه. طوال عقود، قاد رؤساء أمريكا الحروب في كل مكان، أشعلوا النعرات العرقية والطائفية، دبروا الانقلابات ضد حكومات شرعية وبلدان ذات سيادة وقصفوا الشعوب بالنابالم والتوماهوك وكأنهم يرشون الذباب بالمبيدات. وعند العودة لكل هذه الأحداث وحصر الضحايا، سنكتشف أن عدد القتلى والمعطوبين في عهد الحكومات الجمهورية أكبر بقليل منه في عهد الحكومات الديموقراطية، فحيث يقتل رئيس جمهوري عشرة أشخاص، يكتفي الديموقراطي بقتل 9، لهذا يمكن القول أن الانتخابات الأمريكية هي مسابقة هوليودية لاختيار “القاتل الأفضل”!
النظام التعليمي الأمريكي، والإعلام الخاص منه والعام، وهوليود ومواقع التواصل الإجتماعي كلها تقوم بدورها كجزء من البنية الفوقية، لاقناع الشعب الأمريكي أن لديه الخيار، وبأن “دافع الضرائب هو من يقرر” وأن “البلد جنة الديموقراطية”. والحقيقة أن المواطن الأمريكي ليس لديه خيار حتى في نوع الخبز الذي يأكله ناهيك عن اختيار “زعيم العالم”. في الولايات المتحدة الامريكية، تبقى الكلمة الأولى والأخيرة بيد الرأسماليين، ممثلي لوبيات صناعة السلاح ولوبيات المال و وول ستريت ولوبيات الطاقة وغيرها. هذه اللوبيات تتحكم بالمال والسلطة والقضاء، ولكنها أيضا تتحكم بالإعلام وصناعة السينما التي بدورها تصنع “الرأي العام” المناسب لأهوائها.
الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذ الأوضح الذي يمكن من خلاله الشرح لطالب أو تلميذ ثانوية ما معنى أن الدولة “ليست محايدة” وما معنى أن “الدولة جهاز طبقي”. ومساء اليوم، أكان المحتفل ترامب أو بايدن، لا تنسوا إن كلاهما دمية رهينة لدى “مول الشكارة” الواقف خلف الستار.