ذ. عبد العزيز القراقي
انتهت انتخابات الثامن من شتنبر 2021 معلنة احترام المنطق إلى حد بعيد، بغض النظر عن بعض الخروقات العادية التي قد تقع في الكثير من الدول، البعض منها قد يكون بسبب سوء فهم المساطر، أو الجهل بالقانون.
لقد تأكد أن الناخب المغربي لا يختلف كثيرا عن مثيله في أغلبية الدول، من حيث السلوك الانتخابي، فعلى سبيل المقارنة، قلما يستطيع حزب يقود الأغلبية البقاء في السلطة لأكثر من ولايتين، فإذا نحن استثنينا ماركريت تاتشر زعيمة حزب المحافظين في إنجلترا، التي فازت بثلاث ولايات وقادت الحكومة من 1979 إلى 1990والمستشار الألماني هلموت كول. الذي انتخب في منصب المستشار من 1982 إلى 1998، فإن الغالب الأعم في الانتخابات هو الفوز بولايتين اثنتين، ومن تم فإن مقولة “السلطة تنهك” ما فتئت صناديق الاقتراع تؤكد صحتها، غير أنه بقدر ما كان أكبر المتفائلين، لا يتوقع أن يحصل حزب العدالة والتنمية في سنة 2016 على 125 مقعدا فإن أشد المتتبعين شؤما، ما كان يتخيل أن يتراجع هذا الحزب إلى 13 مقعدا على مستوى مجلس النواب دون تمكنه حتى من التوفر على فريق برلماني ، ناهيك عن تراجعه على مستوى الجماعات والمقاطعات والجهات، وكلها أمور تستدعي التوقف عند هذا الأمر لمحاولة فهم هذا التحول الذي يستفزالمهتمين بالشأن السياسي بالمغرب، فهل يمكن تقديم تفسير لما حدث؟
يبدو أن الانتخابات في المغرب باتت معقدة، ومسار الفوز فيها يتطلب وقتا طويلا، عبر وضع خارطة طريق كل شيء يكون فيها معد بدقة، والإعداد لها يفترض المصاحبة من قبل العديد من المتخصصين، وأصبح التواصل السياسي على مدى ولاية كاملة يفرض نفسه، ويقتضي بل يحتم على الحزب الذي يرغب في التفوق في الانتخابات، تبني نموذج خاص للتسويق السياسي، ومعنى ذلك الانفتاح على المتخصصين في المجالات ذات الصلة ، القادرين على تغيير آراء الناخبين حول طبيعة الحزب الأفضل بالنسبة إليهم، والاقتناع بأن برنامجه هو الأقرب إلى ما يجب أن تكون عليه الأمور، حتى ولو كان مستحيل التحقيق من حيث المنطق والوسائل.
لقد قدم حزب التجمع الوطني للأحرار نفسه على أنه الحزب المنتظر القادر على تقديم بديل يرقى إلى تطلعات الناخبين، ولنفترض جزافا أن التصويت في الانتخابات الأخيرة كان عقابيا، فكيف يمكن والحالة هذه استبعاد طرح سؤال حول دور حزب التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري، ولماذا لم تتعرض هذه الأحزاب لغضب الناخبين؟ ألم يكن حزب التجمع الوطني للأحرار طرفا فيها، بل فاعلا في مصيرها؟ ألم يسهر على تدبير الحقائب المتعلقة بالصناعة والفلاحة والتجارة؟ ثم إذا أردنا أن نقارن ذلك بالقطاعات التي كان يديرها حزب العدالة والتنمية سنجد أن الفرق واضح للعيان، وبالتالي يمكن القول إن كل الأمور السلبية كانت تنسب للحزب الذي يقود الحكومة المفتقر أصلا إلى خطاب تواصلي خاص بالمرحلة، بينما الأمور الإيجابية التي تتحقق داخل القطاعات الاستراتيجية التي كان يقودها حزب التجمع الوطني للأحرار، توظففي التسويق السياسي لفائدة الحزب وبالأخص على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد اعتقد حزب العدالة والتنمية أن المكانة التي منحته انتخابات 2016 هي بمثابة شيك على بياض يصعب تغيير معطياته، ولم يول أهمية مثلما كان عليه الأمر في سنة 2016 للتواصل ولا للتسويق السياسي، وكاد وجوده يختفي من مواقع التواصل الاجتماعي التي تأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنها حاسمة في المسارات السياسية في كل دول العالم. والحقيقة أن مشاكل الحزب انطلقت بوضوح، بعد مؤتمره الأخير، حيث استبعدت الكثير من، القيادات التي كانت محسوبة على تيار عبد الإله بن كيران، وامتد ذلك أيضا عند تغيير بعض الأعضاء على مستوى الفريق الحكومي، وهو الأمر الذي يفسر تراجعه الملحوظ بشكل كبير في بعض المدن التي اعتبرت قلاعا له من قبيل الدار البيضاء وطنجة.
لقد تبنى الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية العديد من القضايا المركزية، واعتبر البعض منها مهما بل مركزياعلى مستوى التأطير والتعبئة الجماهيرية، من قبيل القضية الفلسطينية، حيث كان الحزب خلال المسيرات والمهرجانات المنظمة تضامنا مع الشعب الفلسطيني، يتفنن في صياغة الشعارات المناهضة لإسرائيل، والمتوعدة لها بشتى الوعود، غير أن التقارب الذي حدث بين المغرب وإسرائيل، ومشاركة رئيس الحكومة الذي يقود في نفس الوقت الأمانة العامة للحزب في ذلك، أدى إلى إحداث نوع من التناقض بين الفكر والسلوك، صعب قبوله بالنسبة للكثير من المتعاطفين، خاصة في صفوف حركة التوحيد والإصلاح التي شكلت خزانا انتخابيا حقيقيا لحزب العدالة والتنمية، مما تسبب في بروز نوع من التنافر مع الحزب، حيث بات الغاضبون ينتظرون لحظة تصفية الحسابات.
إن طريقة تدبير الحزب للمحطات الانتخابية، أكدت أن خللا ما تسرب إلى حزب العدالة والتنمية عطل الكثير من آلياته، حيث استبعد بعض الأعضاء الذين سبق لهم أن فازوا في دائرة انتخابية معينة، وعوضهم بأعضاء آخرين غير قادرين على تحقيق إشعاع سابقيهم، وعلى النقيض من ذلك احتفظ ببعض الوجوه في دوائرها المعتادة بالرغم من أن أصواتا شبابية صدحت بضرورة التغيير.
ولكن هناك سؤال فرض نفسه بعد ظهور النتائج، فهل كان الحزب سيحصل على نفس النتائج لو نظمت الانتخابات الجماعية والجهوية بشكل متباعد مع الانتخابات البرلمانية؟
يبدو أنه بالنسبة للجماعات من المستحيل أن يتم تصور تفوق الحزب فيها، وكان متوقعا أن ما سيحصل عليه سيكون أقل بكثير مما حصده سنة 2015 ، ذلك أنه في الوقت الذي قدم التجمع الوطني للأحرار، الحزب الفائز في الانتخابات 25492 مترشح للجماعات أي بنسبة 16,18% وهو أكبر عدد متبوعا بحزب الأصالة والمعاصرة ب 21187 مرشح، بينما لم يقدم حزب العدالة والتنمية إلا 8681 مترشح أي بنسبة 5,51%، وهو بذلك تبوأ المرتبة الثامنة من حيث عدد المرشحين على المستوى الجماعي وهي نفس المرتبة التي تبوأها الحزب عند الإعلان عن النتائج، فكيف يمكن ربط الأمرين؟
يبدو أن الانتخابات انطلاقا من شكل ورقة التصويت،تفترض احتمال التصويت للمترشح على مستوى الجماعة وتمييزه بالنسبة للجهة وكذلك الأمر بالنسبة لأعضاء البرلمان، وهنا أيضا هناك إمكانية الاختيار بين اللائحة المحلية واللائحة الجهوية، كما يمكن للناخب أن يختار نفس الرمز أي التصويت لنفس الحزب بالنسبة لكل الانتخابات،غير أنه إذا كان الكثير من الناخبين غير متملكين للتمييز الموجود بين الجماعات والجهات والبرلمان، فلا يبدو أن الاختيار على مستوى التصويت سيكون متنوعا، إن الكثير من الناخبين يعيبون على النائب البرلماني كونه يختفي مباشرة بعد الانتخابات، وهو أمر طبيعي لكون مهمته منحصرة في تمثيل الأمة وممارسة السيادة، بينما الكثير منهم في الأصل لا يميزون بين المستشار الجماعي والنائب البرلماني، من هنا يبدو أن الذي حسم في هذه الانتخابات هو الجماعات، فالناخبون أكثر قربا من المستشار الجماعي منه إلى البرلماني، ومادام حزب التجمع الوطني للأحرار قدم أكبر عدد من المترشحين، فمعنى ذلك أنه جنى ثمار حملته، وقدرته على التعبئة والتواجد في كل مكان، عبر طرح عرضه على المواطنين كاختيار مغر ضمن اختيارات متعددة، في الوقت الذي راهن فيهحزب العدالة والتنمية على الجهات والبرلمان، ولكن كانت المنافسة فيها مع أطراف أخرى بينة. ويظهر أن الذين صوتوا لفائدة الأحزاب التي كانت متواجدة على المستوى الجماعي بشكل كبير قرروا أن يجودوا عليها أيضا بأصواتهمعلى مستوى الجهات والبرلمان أيضا.
لقد تبوأ حزب التجمع الوطني للأحرار الصدارة في هذه الانتخابات، ولكن كيف استطاع أن يتحول من حزب وسطي حاضر في كل المعادلات الانتخابية، من أجل إحداث نوع من التوازن على مستوى الحكومات، إلى حزب قوي يقود الأغلبية؟
إن التحول الكبير الذي حدث في هذا الحزب خاصة عندما تقلد قيادته رئيسه السابق صلاح الدين مزوار الذي اختار للحزب مكان يتراوح بين الحكومة والمعارضة مؤشر على أن الحياة السياسية بالمغرب قد تشهد مستقبلا تحولات أخرى بالنسبة لكافة الأحزاب غير أن صناديق الاقتراع ستبقى هي المتحكمة في مختلف المسارات. و ستجود على من يعتبر الانتخابات نسقا متكاملا ويستحضر دائما ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
**أستاذ بكلية الحقوق بالرباط-السويسي