نجيب الأضادي
يمتاز المواطن المغربي في علاقته وتعريفه للدولة بعدة تناقضات وصور نمطية. تارة يستغيث بها وبذراعها لحمايته من الآفات والمخاطر، تارة يستنجد بها للحصول على حقوقه أو رفع الظلم عليه ، تارة يمجدها لكونها الإسمنت الذي يجمع كيان البلاد من التفكك وتارة يهاجمها لكونها تحتكر قانونيا العنف الشرعي وتارة ينتقدها بشدة لكونها في وقت مضى كانت تنتهك الحريات وحقوق الانسان و تارة يتمرد عليها ويشرعن الإنفصال السياسي أو الثقافي…فكيف يمكن في هذه المتناقضات إيجاد تعريف وسطي، حضاري وسياسي لمفهوم الدولة والتي التصق إسمها بصورة نمطية غامضة اصطلح عليها بدولة المخزن أو بالدولة العميقة.
من جهة أخرى هناك خلط كبير في ذهنية المواطن المغربي بين الإدارة والدولة والحكومة، هل توظفه التيارات السياسية إما لتأجيج الشعب ضد حكامه أو عن جهل للمفهوم الساسي للمخزن قياسا بالجذور التاريخية والأنتروبولوجية لهذا المصطلح الذي ظهر في القرن التاسع عشر والذي كرسه الإستعمار ومأسسه كل من أوفقير والبصري كجهاز إستخباراتي لقمع كل أشكال المعارضة السياسية أبان ما عرف بسنوات الرصاص حيث كان المواطن المغربي يضع في خانة واحدة النظام السياسي، الدولة، الإدارة والحكومة دون التمييز بين هذه المكونات الظرفية لمفهوم الدولة أنذاك.
في كثير من الدول الكبرى، تبنى القيم والحريات وأشكال التكافل والتوازن الترابي على قوة العمود الفقري للدولة والذي يتجلى في تحديد مربع وصلاحية الدولة. ويختلف هذا التصنيف السيميولوجي بين أمريكا،ألمانيا،إسبانيا وفرنسا مع الرغم أنها تعد من كبريات الديمقراطيات. فمنها من قلصت مفهوم الدولة الى ما يخص السيادة بالمفهوم الأممي؛ومنها من أضعفت المركزية وزادت من قوة الجهويات المختلفة الأشكال، ومنها من وضعت الدولة في الخانة الفيدرالية حيث جعلت الإقليم دولة داخل الدولة ومنها من أعطى للدولة المركزية الشرعية الكبيرة لممارسة سيادة الشعب كما هو الحال في فرنسا والتي ترتكز الدولة على مفهوم الدولة اليعقوبية خاصة مع الجمهورية الخامسة بقيادة الجنرال De Gaulle.
مفهوم الدولة في المغرب بعيد نسبيا عن هذه النمادج وتطور عبر التاريخ إنطلاقا من عقيدته السياسية ” الضوابط والمتحركات” لبناء العلاقة العضوية بين النظام، الدولة،الإدارة والحكومة وحديثا مع الوحدات الترابية.
لقد تم بناء الهرم السياسي والمؤسساتي على ضابط الشرعية حيث أن المغرب قد بني على تسلسل السلاطين الذين يستمدون شرعيتهم من البيعة ولم يخضعون لتعيين أو إنتخاب. ومن هنا كانت الدولة في صلب الملكية والعكس صحيح ، وكل إخلال بهذا التنظيم أدى دائما الى الفوضى (السيبة) أو إلى الإستعمار. بمعنى آخر، أن الملكية ارتبطت بالدولة وليس بالحكومة او الإدارة، وهذا هو ما كرس مفهوم المخزن تاريخيا.
في عهد الحماية كانت هناك ازدواجية في تسيير المغرب حيث كانت الملكية حاكمة شرعية وكانت فرنسا تجسد الدولة والحكومة. ثم في السنوات الأولى من الإستقلال كان هناك ملك ولم تكن هناك دولة،وجاء الملك الراحل الحسن الثاني لبناء الدولة المغربية ولكن لم تكن هناك إدارة ممغربة ولم تكن هناك حكومة دستورية قائمة ولم تكن خريطة ترابية غير ممركزة.
وجاء محمد السادس وأنهى بناء الدولة العصرية وكرس دستور 2011 إفراز حكومة سياسية وإدارة غير ممركزة ورسم معالم الجهوية الموسعة ذهبت الى حدود الحكم الذاتي تحت السيادة المركزية كما هو الشأن عند فرنسا في علاقتها باقاليمها ما وراء البحار.
إن قراءة وتحليل الدستور المغربي وهيكلة الحكامة الترابية وهندسة الإدارة العمومية تعطي إشارات واضحة للتقليل من التصور الذهني لمفهوم المخزن المتقادم الذي لم يعد كما كان ذلك الرسم العنكبوتي وتلك الفزاعة التي ترفض هيبة الدولة وضرورة قوتها.
ان الدولة هي جهاز إداري وبناء قانوني يكرس سيادة البلد داخليا وخارجيا تستمد شرعيتها من كونها غير مرتبطة بطبيعة النظام السياسي للبلد او الخيار الإيديولوجي ومن حيث كونها من الشعب وفي خدمة الشعب والملك والوطن،
لاتخضع الدولة لدوالب الأحزاب ومخرجات الإنتخابات.
الدولة مفهوم يتجاوز الزمان والمكان والخريطة السياسية ولكن تخضع لآليات الحياد والرقابة وتسهر على احترام الدستور والمؤسسات، فممثل الدولة يبقى بعيدا عن التشريع أو التخطيط او التوجه السياسي؛ وبالتالي فإن الدولة تعمل على السهر على تطبيق القانون،وعلى الأمن الداخلي وحماية البلد وترسيخ سيادته على المستوى الدولي. كما أن رجل الدولة لا ينتخب، يعين ويقال وخاضع لواجب التحفظ ولا تربطه أية مصالح أو مواقف بالأحزاب،برجال الدين أو بالأوساط الاقتصادية.
أما الإدارة فهي الإبن البكر للدولة وامتدادا لها على باقي التراب الوطني ؛يمكن للإدارة تطوير شراكات مع الوحدات الترابية او المجمعات الإقتصادية وباقي الميادين المدنية باستثناء المربعات السيادية.
أما فيما يتعلق بالحكومة فرغم التشابك بين الدولة والإدارة والحكومة، فهذه الأخيرة يتم انتخابها أو تعيينها لتنزيل برامج حددها رأس الدولة وخاضعة للبرلمان ومحدودة الأجل عكس الدولة التي تتسم بالإستمرارية. وبصفة عامة تبقى الحكومة والإدارة تحت مراقبة الدولة والقضاء والمصالح الحساسة المتعلقة بأمن الدولة، بالخارجية،بالدفاع الوطني وبالأمن الروحي للبلاد.
أما الدولة في أنظمة مثل فرنسا أو المغرب، فتبقى فوق الرهانات السياسية أو الصراعات المصغرة وتأخذ تعليماتها من حاكم البلاد. أي بخلاصة أن النظام والدولة هما ثوابت والباقي متحركات خاضعة للمحاسبة والمساءلة.
لا كيان لبلد بدون دولة قوية. ولا نجاعة لإدارة بدون دولة يعقوبية ولا استمرار لحكومة بدون درع تقنوقراطي يحل محل الفراغ في حالة ضعف الحكومة.
لا إستقرار أمني، سوسيو اقتصادي أو روحي بدون دولة ذات هيبة ونجاعة لتدبير ترابها ورعاياها.
إن المغرب يتجه باتجاه الديمقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات. ولكن لن يتم هذا بدون تقوية وهيبة الدولة لترسيخ هذه المفاهيم المجردة.
إن حماية المغرب من خطر الإرهاب، الإنفصال، الاختراقات، الأوبئة أو من الأزمات الاقتصادية في سياق العولمة لا يمكن إدراكه بدون دولة قوية ذات هيبة داخليا أولا ثم خارجيا لردع الأخطار.
إن عصر التصور الذهني للدولة عبر مفهوم المخزن قد انتهى وتقادم وحل محله مفهوم جديد للدولة مبني على إثبات هيبتها ونجاعتها وهي مسؤولة في النهاية عن تكريس هذا المفهوم الجديد من خلال القيام بإصلاحات شاملة للواقع، يستظلّ به المواطنون ويعيشون فيه عيشة الأمن والطمأنينة والإستقرار والتنمية.
*نجيب الأضادي :باحث ومدون مستقل