عبد الله بوصوف
عرفت الانتخابات المحلية بإسبانيا يوم 28 ماي الماضي تقدما كبيرا لليمين ممثلا في الحزب الشعبي، واليمين المتطرف في حزب فوكس، وهو التقدم الذي وصف ب “تسونامي” إذ فاز الحزب الشعبي بخمسة جهات من عشرة كانت تابعة للحزب الاشتراكي العمالي أو لتحالفـه، فيما ضاعف حزب فوكس من غنيمته السياسية.
لـكن الرد ” السياسي ” السريع وليس المتسرع للزعيم الاشتراكي “سانشيز” لم يتأخر وجاء إعلان انتخابات تشريعية مبكرة بعد حل البرلمان ومجلس الشيوخ وتبليغ الملك فيليب السادس بذلك، ليطغى على حدث فوز اليمين بالانتخابات ويؤجل بالتالي احتفالات اليمين الى تاريخ لاحق.
فإعلان انتخابات مبكرة مباشَـرة بعد نتائج مخيبة ليس بالأمر الهين ولا يدخل ضمن الرد الانفعالي/المتسرع، لذلك مـال العديد من المحللين الى أن اتخاد قرار انتخابات مبكرة كان ضمن أجندة بيدرو سانشيز في حالة الخسارة، ويدخل ضمن استراتيجية الإعيـاء، بحيث أنه يحرم تحالف اليمين الاسباني من الاحتفال بالفوز مع أنصاره، كما يعني إدخاله في أجندات انتخابية وقانونية أخرى، تتعلق باحترام آجال تقديم المرشحين وإعلان التحالفات السياسية وتاريخ بدء الحملة الانتخابية لتشريعيات 23 يوليوز 2023، وهو ما أكــد أن محليات 28 ماي كانت مقدمة لتشريعيات حاسمة.
لقد قادت التجربة السياسية القوية للاشتراكي “سانشيز” إلى اتخاد قـرار سياسي جـريء من حجم اعلان انتخابات مبكرة، رغم انه كان سيتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي مع شهر يوليوز وما يعني ذلك من استقبال مفوضي الاتحاد الأوروبي بمدريد وغيرها من ترتيبات الرئاسة الدورية.
ويظهــر أن القرار المفاجئ لـسانشيز كان يهدف من خلاله حرمان تحالف اليمين من توظيف فوز 28 ماي على المستوى الإعلامي، وكذا على مستوى تحضير الحملة الانتخابية للتشريعيات في دجنبر، وإرغام تحالف اليمين على تقديم لوائح مرشحيهم وتحالفاتهم وفق آجال قانونية لانتخابات يوليوز المبكرة.
ورغم ان انتخابات 28 ماي كانت محلية وبعضها جهويا فإن الحملة الانتخابية لتحالف اليمين قامت أساسا على الطعن في قرارات وسياسات مدريد وعلى رأسها سانشيز والتشكيك في فعاليتها، هـذا رغم التقدم الحاصل في مجال التشغيل والتقليص من معدلات البطالة وتوسيع مجال المساعدات الاجتماعية والحوار الاجتماعي حول ملفات الحد الأدنى للأجور والتقاعد. وجعل التحكم في وسائل الاعلام اليمين الاسباني يقود حملة التشكيك والتخويف من شبح منظمة “إيـتا الباسكية ” والتي أعلنت عن إيقاف أنشطتها المسلحة سنة 2011، بالإضافة الى نسبة العزوف التي وصلت 35 في المائة، ورحيل الناخب الليبرالي من حزب المواطنون الى الحزب الشعبي، كلها عناصر ساهمت في تقدم اليمين في انتخابات ليلة 28ماي المحلية.
وفي الوقت الذي كان اليمين يعتمد في كل المواعيد الانتخابية السابقة على أدبيات و “تيمات” محددة كالهجرة والأمن والإسلام، فالملاحظ أن ملف الهجرة لم يحظ بمكانته المعهودة في حملات انتخابية سابقة، وذلك بفضل التقارب والتنسيق المغربي/الاسباني في مجال الهجرة الذي جعل الأرقام تتراجع بشكل كبير مقارنة مع ما يقع الآن في تونس. لكـن خفوت ورقة الهجرة جعل لاعبا جديدا و”التيمة” الجديدة تطفو على سطح الانتخابات الاسبانية. يتعلق الامر بالأمن المــائي، على ضوء التغييرات المناخية والارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة وقلة التساقطات خاصة في الجنوب الاسباني حيث يهـدد شبح الجفاف والعطش.
فقد أعلنت وزارة الانتقال البيئي عن تصنيف يُـدخل 27 في المائة من الأراضي الاسبانية ضمن حالة جفاف طارئ، ووصول الاحتياطي المائي الى نسبة 50 في المائة. وإذا كانت أغلب المناطق الاسبانية تعاني من تداعيات التغييرات المناخية، فإن منطقة الأندلس هي أبـرز المتضررين، إذ تشتهر بزارعة الأرز والفراولة، وهي زراعات مرتبطة باستهلاك الماء بكميات كبيرة وباستنزافها للثروة المائية “لمنتزه دونيانا الوطني” الواقع في منطقة “هويلبا” التي تنتج حوالي 98 في المائة من الفراولة والفواكه الحمراء بإسبانيا، وتمثل صادراتها لأوروبا 33 في المائة، وهي الأنشطة التي تضمن مئات الالاف من مناصب الشغل وتساهم في الثروة المحلية والوطنية.
لقد نبهت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوربي إلى خطر استنزاف الثروة المائية “بمنتزه دونيانا الوطني” بنـاء على شكوى من طرف هيئات حقوقية و بيئية، وهددت اللجنة الأوربية حكومة مدريد بإصدار عقوبات مالية، ودخلت أيضا منظمة اليونيسكو على الخط باعتبار أن “منتزه دونيانا” هو ضمن قائمة التراث الإنساني منذ سنة 1994، كل هذا أجج الصراع بين الحكومة المركزية بمدريد (اشتراكية)، والحكومة الجهوية بالأندلس ( يمينية)، وجعل من ملف الأمن المائي حربا سياسية وبرنامجا انتخابيا بين حكومة اليمين بالأندلس والحكومة المركزية بمدريد.
وهو ما جعل اليمين الحاكم في الأندلس يسرع في شهر أبريل الماضي إلى إخراج إعانات مالية مهمة للفلاحين المتضررين وتمويل مشاريع البنية التحتية للسقي والري، كما أعلن عن نيته المصادقة بالبرلمان الجهوي بالأندلس بعد انتخابات 28 ماي على تسوية وضعية الآبار الغير قانونية والبالغة بين 1000 و2000 بئر، وتوسيع مجال الأراضي الزراعية القريبة من “منتزه دونيانا”، مما يمثل خرقا واضحا “لاتفاق الفراولة” الموقع سنة 2014 بين حكومة الأندلس الاشتراكية وقتها والفلاحين وهيئات حقوقية وبيئية، وهو الاتفاق الذي يحصر الأراضي الفلاحية في 9 هكتار فقط.
هذا الوعد الانتخابي اليميني عارضه سانشيز للحزب الشعبي لأنه يمثل تهديدا بالعطش للمنطقة ككل وعاملا قد يقضي على الثروة الغابوية والحيوانية. وصادق في هذا الإطار المجلس الوزاري الاستثنائي ليوم 11 ماي برئاسة سانشيز على إعانات بلغت 2.2 مليار أورو مخصصة للمتضررين في المناطق المنكوبة بالجفاف ولمشاريع تدبير الثروة المائية.
لم يعد الصراع حول تدبير الثروة المائية محصورا في إسبانيا بل انتقل الى ألمانيا التي تستورد حوالي 33 في المائة من انتاج الفراولة بإسبانيا، ونشر نشطاء البيئة من ألمانيا عريضة لمقاطعة المتاجر الألمانية المنتشرة بأوروبا للمنتوجات الزراعية لمنطقة هويلبا/ دونيانا، حيث وصل عدد الموقعين على العريضة 160 ألف شخص.
ويرى أبـرز المحللين أن “حرب الماء” التي أطفأها اتفاق 2014 بالأندلس وأعاد إشعالها “سياسيا” اليمين اثناء محليات/جهويات 28 ماي الماضي، ستكون إحدى أهم النقط الساخنة في الحملة الانتخابية للتشريعيات المبكرة في 23 يوليوز، وستلقي أيضا بظلالها على انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024.